الاستغلال السياسي لمصطلح أهل/آل البيت والصلاة عليهم
على الرغم من أن كتابي البخاري ومسلم كانا في القرنين الثالث الهجري فلم يلحقا الآل مطلقاً بالصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم-، وبالعودة إلى توقير الصحابة للنبي -صلى الله عليه وسلم- والصلاة عليه عند ذكره، بمن فيهم أقرب الناس إليه، وهي فاطمة ابنته -رضي الله عنها-، ذكرت النبي وصلّت عليه صلاةً مجردة مما يقال عنهم الآل، وكذلك علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-، الذي تسند الشيعة كل شيء إليه، وجميع الصحابة وعلى رأسهم رفيقه ووزيره وخليفته أبو بكر الصديق -رضي الله عنه، وكذلك زوجه وأقرب الناس وأحبهم إليه عائشة -رضي الله عنها.
ففي الحديث الذي رواه البخاري قال: حدثنا يحيى بن قزعة، حدثنا إبراهيم بن سعد عن أبيه عن عروة عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "دعا النبي -صلى الله عليه وسلم- فاطمة ابنته في شكواه الذي قبض فيها، فسارها بشيء فبكت، ثم دعاها فسارها فضحكت. قالت: فسألتها عن ذلك. فقالت:
سارّني النبي -صلى الله عليه وسلم- (هكذا مجردة من ذكر الآل وهي ليست من زيادة الرواة بطبيعة الحال؛ لأن جميع الصحابة والأقارب كانوا يعظمون النبي -صلى الله عليه وسلم- تعظيما) فأخبرني أنه يقبض في وجعه الذي توفي فيه فبكيت، ثم سارني أني أول أهل بيته أتبعه فضحكت".
وعن فاطمة أيضاً: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا دخل المسجد قال: "صلى الله على محمد وسلم".
وبالتتبع لمصطلح آل البيت، أو أهل البيت، كمصطلح سياسي للاستعطاف وجمع الناس عليهم بدأ بالظهور قليلاً وتسييسه في نهاية خلافة عثمان بن عفان –رضي الله عنه-، أو لنقل في بداية خلافة علي -رضي الله عنه- حينما بدأ بعض أنصاره، أو لنقل أصحاب الفتنة الذين استغلوا علي بن أبي طالب –رضي الله عنه-، وأشعلوا الفتنة، مع ظهور بعض المصطلحات الأخرى لأول مرة في تاريخ الإسلام وبين المسلمين كالوصية والولاية ثم مصطلح آل البيت لدعم الادعاء السياسي في الخلافة، خاصة مع احتدام خلافه مع معاوية بن أبي سفيان –رضي الله عنه-.
وقد يكون مكذوباً في الروايات التاريخية عن علي كما كذب عليه في منسوبات روايات كتاب نهج البلاغة؛ لأن علياً نفسه لم يكن يصلي على النبي إلا الصلاة المعروفة عند كافة الصحابة والتابعين.
ومع أن علياً لم يتمسك كثيراً بالمصطلح، كما يظهر من محاجاته معاوية: "إنه قد بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان"، إلا أن بداية ظهور المصطلح كان في عهده، ولم يكن شائعاً وقته ولا بعده في زمن أبنائه الحسن والحسين ومحمد (ابن الحنفية)، وما كان مسيساً عنده إلا قليلاً عند الحسين حينما واجه جيش عبيد الله بن زياد. فحينما خرج الحسين –رضي الله عنه- على يزيد وهو يريد الكوفة، حينما دعي للبيعة فيها قبل استشهاده، احتج بأحقيته في الحكم كونه من أهل البيت أو من آل البيت، وكذلك لأن العراقيين استدرجوه وزينوا له الحكم من ناحية، ومن ناحية أخرى رأى أن معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه- خالف الاتفاق الذي كان بينه وبين الحسن -رضي الله عنه- وهو أن يعود الحكم من بعد معاوية إلى الشورى بين المسلمين، (بعض الروايات تقول: إن الاتفاق أن يتنازل الحسن لمعاوية ويكون الحسن ولياً للعهد بعد بعده، لكن الحسن توفي قبل معاوية)، لكنه استخلف بعده ابنه يزيداً، وأن يزيداً ليس أهلاً للحكم. وهنا بدأ الحسين استخدامه لأحقيته بالحكم كونه من أهل البيت، وأنه الأصلح للحكم من يزيد.
وكان مما قاله الحسين في ذلك، واتخذه الشيعة حديثاً نسبوه للرسول –صلى الله عليه وسلم- قبل استشهاده في النجف، وهو يحادث عبيدالله بن الحر الجعفي، يدعوه لنصرته، وعبيدالله يرفض تلك المناصرة لأنه يراها انتحاراً وليس مع الحسين أنصار، فطلب منه الحسين أن يقف على الحياد، وقال له: "فإلا تنصرنا فاتق الله أن تكون ممن يقاتلنا، فو الله لا يسمع واعيتنا أحد ثم لا ينصرنا إلا هلك".
ولما قدم الحسين العراق بحسب الكتب والمراسلات من أهلها بينه وبينهم، وبلغ القادسية، واستقبله الحر بن يزيد الجعفي بجيش من قبل عبدالله بن زياد، لاستمالته للكوفة لا لقتله في بادئ الأمر، كان وقت صلاة العصر فطلب الحر من الحسين الصلاة بهم، ولما صلى الناس العصر، "انصرف [الحسين] إلى القوم بوجهه فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد.. أيها الناس، فإنكم إن تتقوا وتعرفوا الحق لأهله يكن أرضى لله، ونحن أهل البيت أولى بولاية هذا الأمر عليكم من هؤلاء المدعين ما ليس لهم، والسائرين فيكم بالجور والعدوان، وإن أنتم كرهتمونا، وجهلتم حقنا، وكان رأيكم غير ما أتتني كتبكم، وقدمت به عليّ رسلكم، انصرفت عنكم...إلخ".
ثم إن الحسين كان له بكل موقف في طريقه إلى الكوفة خطبة وطلباً يخطب بها الناس، ومنها خطبته بالبيضة بأصحابه وأصحاب الحر بن يزيد، وهو لا يزال يذكرهم بأحقيته بالحكم، وأنه من أهل البيت، فقال: "أيها الناس، إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من رأى سلطاناً جائراً مستحلاً لحرم الله ناكثاً لعهد الله، مخالفاً لسنة رسول الله، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يغير عليه بفعل ولا قول، كان حقاً على الله أن يدخله مدخله"، ألا وإن هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد، وعطلوا الحدود، واستأثروا بالفيء، وأحلوا حرام الله، وحرموا حلاله، وأنا أحق من غَيّر. قد أتتني كتبكم، وقدمت علي رسلكم ببيعتكم؛ أنكم لا تسلموني ولا تخذلوني، فإن تممتم على بيعتكم تصيبوا رشدكم، فأنا الحسين بن علي، وابن فاطمة بنت رسول الله –صلى الله عليه وسلم- نفسي مع أنفسكم، وأهلي مع أهليكم، فلكم فيّ أسوة، وإن لم تفعلوا ونقضتم عهدكم، وخلعتم بيعتي من أعناقكم، فلعمري ما هي عليك بنكر. فلقد فعلتموها بأبي وأخي وابن عمي مسلم، والمغرور من اغتر بكم، فحظَّكم أخطأتم، ونصيبكم ضيعتم، ومن نكث فإنما ينكث على نفسه، وسيغني الله عنكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته".
فالأعجب في هذه الخطبة علمه بخذلان أهل العراق لأبيه وأخيه وابن عمه، وهو يذكرهم بذلك، ولكنه لم يأخذ الدروس منهم، وهو يشاهدها في تلك الأثناء عين اليقين ولا تنقل له نقلاً، وربما ألفت على لسانه فيما بعد كما ألفت الكثير من الخطب لعلي من قبل المرتضى في نهج البلاغة ونسبت لعلي!
فقد كان أخوه الحسن نصحه قبل وفاته، وأوصاه بعدة وصايا، وقال له: "ما أظن أن الله يجمع لنا بين النبوة والخلافة، ولا يستخفنك أهل الكوفة ليخرجوك..".
كما إن الشاهد من الخطبة أنه يُذكّرهم أنه الأحق بالحكم، وأنه ابن علي وابن فاطمة، لاستمالة الناس إلى صفه، بينما كانت الأمور تسري بين أهل العراق بالأموال الطائلة التي استمال بها عبيد الله بن زياد أهل العراق لينقضوا بيعتهم ولينفضوا عن الحسين؛ فالمال يفعل بالناس ما لم تفعله النصوص الدينية ولا المبادئ ولا الأماني، حتى لو كانوا قريبي عهد بالنبوة، كما في هذه الأحداث وما قبلها.
أما وهناك شاهد آخر في الخطبة، وهو أنه أتى بالصيغة العامة للصلاة على النبي، ولم تكن الصيغة الشيعية المستحدثة فيما بعد؛ فقد قال: صلى الله عليه وسلم، ولم يذكر الآل ولا غيرهم ولم يعطفهم عليه؛ فلو كانت الصلاة على الآل فعلاً حقيقية لما تركتها فاطمة ولا علي ولا الحسن ولا الحسين ولا العباس ولا عبدالله بن عباس لحظة واحدة ولا في موطن واحد من ذكره -صلى الله عليه وسلم.
وتروي بعض الروايات، غير الموثوقة، والتي تحمل التشيع، أن الحسن بن علي -رضي الله عنهما- استعمل هذا المصطلح، كالأمر التالي:
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي، حدثنا أبو الوليد، حدثنا أبو عوانة، عن حصين بن عبدالرحمن، عن أبي جميلة ، قال: إن الحسن بن علي استخلف حين قتل علي –رضي الله عنهما-، قال: فبينما هو يصلي إذ وثب عليه رجل فطعنه بخنجر، وزعم حصين أنه بلغه أن الذي طعنه رجل من بني أسد، وحسن ساجد، قال: فيزعمون أن الطعنة وقعت في وركه، فمرض منها أشهراً، ثم برأ، فقعد على المنبر، فقال: يا أهل العراق.. اتقوا الله فينا؛ فإنا أمراؤكم وضيفانكم، ونحن أهل البيت الذي قال الله: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}، قال: فما زال يقولها حتى ما بقي أحد من أهل المسجد إلا وهو يحن بكاءً.
وقال السدي: عن أبي الديلم ، قال: قال علي بن الحسين لرجل من أهل الشام: أما قرأت في الأحزاب {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}؟. قال: نعم، ولأنتم هم؟ قال: نعم".
وكذلك ما قاله الطبري أيضاً: حدثني محمد بن عمارة، قال: حدثنا إسماعيل بن أبان، قال: حدثنا الصباح بن يحيى المزني، عن السدي، عن أبي الديلم قال: لما جيء بعلي بن الحسين - رضي الله عنهما- أسيراً، فأقيم على درج دمشق، قام رجل من أهل الشام فقال: الحمد لله الذي قتلكم واستأصلكم، وقطع قرن الفتنة. فقال له علي بن الحسين: أقرأت القرآن؟ قال: نعم. قال: أقرأت "آل حم"؟ قال قرأت القرآن ولم أقرأ "آل حم"!، قال: ما قرأت {قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}؟، قال وإنكم لأنتم هم؟! قال: نعم".
وطالما أن في سلسلة الحديثين رواةً غير موثوقين فإن الحديثين لا يعتد بهما، ويظهر من سياق سبكة النصين النَّفَس الشيعي فيهما، وهذا يدفعنا إلى القول أنه ليس في زمن الحسن، ولا كذلك في زمن الحسين؛ فأول ظهور له –بشكل بسيط- ظهر في عهد علي بن الحسين، كما في النص السابق من رواية أبي الديلم، الذي ليس معروفاً ولا مشهوراً في رجال الحديث، ويبدو نَفَس التأليف الشيعي فيه، كما ورد في كتب الشيعة أيضاً. ومرة يسأله: أقرأت سورة الأحزاب؟ ومرة: أقرأت سورة آل حاميم؟، مما يدل على اضطراب الروايات أيضاً.
وقد قال ابن أبي حاتم أيضاً: حدثنا علي بن الحسين، حدثنا أحمد بن عبدالرحمن، حدثني أبي، عن أبيه، عن أشعث بن إسحاق ، عن جعفر – يعني ابن المغيرة- عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: أن بني إسرائيل قالوا لموسى –عليه السلام: هل يصلي ربك؟ فناداه ربه: يا موسى، سألوك: "هل يصلي ربك؟"، فقل: نعم، إنما أصلي أنا وملائكتي على أنبيائي ورسلي. فأنزل الله – عز وجل- على نبيه - صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً}الأحزاب56( ).
ولا ندري ما الرابط الذي ربطته هذه الروايات بين الآية والحديث عن موسى، والقرآن إنما أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم- لا على موسى -عليه السلام!
كذلك فإن صيغة الصلاة على النبي في استعمال الناس لها بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- ما قرأنا من يقول بها وهي (صلى الله عليه وآله وسلم)، واستنبطنا فيما استنبطنا من الكتب والأحاديث أن الحسين بن علي -رضي الله عنهما- كان يبدو أول من قالها بشكل مُسَيّس، وذلك في خطبة طويلة له أثناء استعداده لقتال جيش ابن عبيد الله بن زياد، رغم أن في تلك الخطبة أورد الصيغتين مع بعض، فقال فيما قال: "ألست ابن نبيكم –صلى الله عليه وسلم- وابن وصيه وابن عمه، وأول المؤمنين بالله والمصدق لرسوله بما جاء به من ربه؟!
أوليس حمزة –سيد الشهداء- عم أبي؟ أوليس جعفر الشهيد الطيار ذو الجناحين عمي؟ أولم يبلغكم قول مستفيض فيكم: إن رسول الله – صلى الله تعالى عليه وآله وسلم- قال لي ولأخي: "هذان سيدا سباب أهل الجنة"؟!
كما نجد في هذه الخطبة استعماله لفظ الوصية، والوصية هي من استحداث عبدالله بن سبأ، ولم يعمل بها لا علي ولا ابنه الحسن –رضي الله عنهما- ، وكأن بعض ألفاظ وجمل وسياق هذه الخطبة نسجت بعد عهد الحسين بزمن، كما هي خطب كتاب نهج البلاغة، التي دُست على علي -رضي الله عنه- بعده بقرون، خاصة وأن الراوي يتحدث عن الحسين -رضي الله عنه- بصيغة (عليه السلام)، رغم أن تاريخ الطبري هذا كان في القرن الثالث الهجري.
ويبدو أن المصطلح ظهر كثيراً مع جعفر بن محمد الذي قال بعدم قبول صلاة من لم يصل الصلاة عليه، ثم اتخذه بعد ذلك الشيعة نهجاً كون تلك الصلاة والصيغة أخذت عنه وهو يعتبر عندهم أحد الأئمة الإثني عشر.
وقد كرس كثير من العلماء والمؤلفين ورواة الحديث التمييز بين الصحابة -رضوان الله عليهم- تحيزاً وتعاطفاً مع قرابة النبي –صلى الله عليه وسلم- كعلي بن أبي طالب وبنيه وأمهم فاطمة –رضوان الله عليهم-، وأفردوا علياً بقولهم: "كرم الله وجهه"، أو "عليه السلام"، وما كان لهم أن يمايزوا بين الصحابة في ذلك، خاصة وأن من الصحابة من هم أعلى شأناً وأرفع قدراً عند النبي –صلى الله عليه وسلم- من علي؛ كأبي بكر وعمر وعثمان، وقد قدمهم النبي –صلى الله عليه وسلم- على علي.
ولابن كثير في ذلك رأي أيضاً، قال فيه: "وقد غلب هذا في عبارة كثير من النساخ للكتب؛ أن يفرد علي –رضي الله عنه- بأن يقال: "عليه السلام"، من دون سائر الصحابة، أو: "كرم الله وجهه"، وهذا وإن كان معناه صحيحاً، لكن ينبغي أن يساوى بين الصحابة في ذلك؛ فإن هذا من باب التعظيم والتكريم؛ فالشيخان وأمير المؤمنين عثمان [بن عفان] أولى بذلك منه، رضي الله عنهم أجمعين.
قال إسماعيل القاضي: حدثنا عبدالله بن عبدالوهاب، حدثنا عبدالواحد بن زياد، حدثني عثمان بن حكيم بن عباد بن حنيف، عن عكرمة، عن ابن عباس أنه قال: لا تصح الصلاة على أحد إلا على النبي –صلى الله عليه وسلم- ولكن يدعى للمسلمين والمسلمات بالمغفرة".
.... يتبع
-->