يأتي رمضان ليّذكرني بجدتي

عبد السلام القيسي
الاربعاء ، ٢٢ مارس ٢٠٢٣ الساعة ٠٥:٥٣ مساءً

كانت جدتي أعظم نساء الأرض  أقدسهن وأكرمهن وأجلهن وأجملهن جدتي .. الحديث عن جدتي مختلف، كتبت طيلة سنوات عن جدتي " آمن "  لاحظوا .. حتى اسمها مختلف .. العادة ان النسوة يتسمن بآمنة ولكنها وحدها جدتي اسمها آمن .. على غير عادة كل البلاد .. فجدتي متفردة عن كل نساء الأرض جدتي واحدة وحيدة لا شبيه لها ولا مثال ولو وضعن نساء العالم بكفة وجدتي بكفة لرجحت كفة جدتي  ليعذرني كل ابن جدة .. هذا رأيي بجدتي .. كنت أقضي كل رمضان صحبة جدتي منذ الكلمة الأولى الكلمة الأولى كانت لجدتي .. الصوت الأول .. الحقيقة الأولى فأنا ابن عجوز ربتني على هدى خمارها وعلمتني كيفية العيش بطلاقة وكيفية حب الناس علمتني جدتي كيف أجود بالقليل  كانت جدتي أعظم الملكات .. ليس في تأريخ بابل .. وليعذرني نزار قباني كانت جدتي أعظم الملكات في تأريخ أثينا وروما وطيبة وبابل ودمشق وطروادة وقرطاجنة وصور والبتراء ومأرب  أعظم النساء في تأريخ كل العوالم .. تسبق كل عظميات الدهر وتفوقهن،وإن كن ملكات وسلاطين فجدتي سلطانة ميقاتي وإخوتي وعائلتي الكبيرة  عندما مات أبي تحولت جدتي الى ألف أب مات أبي وأبدلنا الله بجدة تساوي قيمة العالم ومعناه ومبناه فهي قادتني الى كل مسار جميل تعلمت المفردة الأولى من جدتي .. أعطتني الرحيق المختوم وانا في الصف الرابع وقالت لي : اقرا لي .. فقرأت لها  وأنا كنت أجيد القراءة بطلاقة ولا أعي الحكاية ومن بعد ذلك وبعد أن تجذرت قراءتي بالرحيق أرتشفت رحيق التأريخ كله جدتي بإستطاعتها أن تعيش في مدن البلاد الكبرى حيث أولادها ولكنها فضلت أن تبقى سلطانة العلم والحياة معنا في الريف ويجدر بي كحفيد أن أكتب فكل رمضان يذكرني بجدتي .. كانت تبتاع لنا من المدينة أجل الأغراض وأغلى وأكثر الحاجيات وتملأ بيتنا بالحياة كما كل السنة تخيلوا .. بضعة أيتام وأم .. ونحن نسكن جبل مرتفع .. تصل السيارة الى أسفل القرية .. كلنا نحمل أغراض رمضان خاصتنا .. نحن وأهل البلدة .. أولهم في باب البيت وآخرهم في القرية السفلى كل هذه المقاضي من جدتي وأعمامي لنا نحن اليتامى .. يشاهدن عجائز القرية هذا المشهد بدمعة حنان تقول إحداهن من القرية السفلى وهي تشاهد المشهد الجليل : الجنة كلها من نصيب آمن  الأخرى تقول : ربي لطف باليتامى وسخر لهم جدتهم وأعمامهم .. أسمع منهن وأفتخر أفاخر بجدتي .. أعيش مع جدتي .. أنام وأستيقظ عند جدتي .. أذاكر عند جدتي أنجح وأسرع كما الضوء لأبشر جدتي .. فتفرح جدتي وتهديني كل شيء الهدايا .. المال .. الكسوة .. كل شيء تمنحنيه جدتي آمن .. ليرحمك الله يا جدتي .. كل رمضان دونك بلا طعم ودون رائحة ومنذ وفاتك وأنا لست أنا لو سألني أحدهم عن عبدالسلام أين هو لأجبته : دفنوه مع جدته صبيحة يوم كئيب عام 2013 مات عبدالسلام بموت جدته .. منحتني هي الحياة والعلم والنباهة والتأريخ والجغرافيا فجغرافيا قلبي رسمتها جدتي بأناملها المقدسة ولا شيء يمكنه أن يحجرني الا اسم جدتي كلما أردت أن أقسم قسماً عظيماً لا أقسم بشيء الا بروح جدتي وأحلف بتربة جدتي تربة جدتي هي الشاهد الأول والأخير لي وهي أقدس الأقداس . أنا حزين حتى أرى جدتي .. تحدثت كثيرا  عن جدتي وسأزيد وسأكثر بالتحدث عن الحب الذي وهبته للعالم من حولها ، للناس ، للرب ، لسجادتها الأثيرة ، للعصافير ، للأحفاد ولي أنا وللملابس السوداء فهي لم تتخلى عنها حداداً على زوجها لأربعين سنة من البكاء .. كانت جدتي كثيرة الحياء من الله.. أستحت منه طيلة عمرها فلم تكثر عليه المطالب.. طالما الجنة فقط مرادها الأسمى وما سواه بالنسبة لها لا يستحق .. ما سواه السراب .. فهي قليلة الكلام على غير النساء وحكيمة.. وأتذكر جدتي في الطريق والحواجز تلوح بالسكاكين  في المدينة والرقباء يمضون خلفي بلا أوجه  في المرض الذي يلمني بالحمى .. في الشارع بينما حواسي مهيأة للضياع   وحيث الموت قسرا؛ً كانت جدتي حفنة النجاة فكلما قلت جدتي سورتني بالطمأنينة .. وذهب الموت وذهب الضياع وفر . هذه اللحظات مقتبل رمضان : كانت جدتي في دارنا الكبير وأمي في المنزل تنظف الأواني وترتب الوقت وفي الخارج أنا مع الصغار نقرع التنكات بالعصي ونحن ندور حول القرى ونهتف : أهلا أهلا يا رمضان مودع مودع يا شعبان ،  جدتي في المقبرة  أمي خلف سياج الحصار ، وأخان لي وكريمتان أيضا ولم أعد أنا الى البيت المقفل منذ سنوات والرمضانات تأتي وكأن شيئا لم يحدث وكأنني ألتذ بالصيام الممزق في البيوت والمدن البعيدة  .. ليته مات في طريقه الى هنا .. أقصد رمضان .. يذكرني بحزني .. ليته فقد روحه بطلقة قناص ولم يعد مجدداً طالما ونحن لم ننتصر بعد ولم ننهزم بعد ، خذ أوانيك يا هذا ولترحل  رحلوا كلهم ، الى المقبرة ، الى البعيد ، الى العوالم الأخرى أخضرها ويابسها ، ورحلت عن دنيانا التنكات والأهازيج ولم نعد نهزج بمقدمك فالعجائز متن والشعلات أنطفأت ومات الوطن الجليل العظيم .

الحجر الصحفي في زمن الحوثي