ولاية علي بن أبي طالب بين تزوير الإمامة والحقيقة التاريخية (18)

توفيق السامعي
السبت ، ٢٠ أغسطس ٢٠٢٢ الساعة ٠١:٣٦ مساءً

 

عبدالله بن عباس يوجه الضربة القاضية لعلي

لم يكن خذلان علي من عامة أتباعه فقط، بل لقد بلغ من أقرب المقربين إليه وأعمدة دولته كعبدالله بن عباس مستشاره وابن عمه الذي يعتبر الرجل الثاني في خلافة علي من حيث الأهمية والمكانة والعمل. فقد كان ابن عباس وزير ماليته وأمين خزانته وبنكه المركزي وابن عمه عبدالله بن عباس ليوجه الضربة القاضية لعلي وما تبقى من دولته، وكانت القاصمة الحقيقية لدولة علي بعد قضية التحكيم، إن لم تكن قبلها في المكانة والمرتبة والأهمية، ليزيد الطين بلة، ويضيف تخاذلاً إلى تخاذل أهل العراق. فقد كان من خذلان جبهة علي أن ابن عمه ووزير ماليته وخزانته عبدالله بن عباس تركه واعتزل موقفه وذهب ببعض المال الذي كان يسند علياً ويدعم جيشه ونفقته، واستقر بمكة، ولما رأى الناس ابن عمه ووزير خزانته انتهب جزءاً من المال مع أخواله، هب كثير من الناس إلى بيت المال وانتهبوها، وهذا يعتبر في مقاييس السياسات والتكتيك العسكري والحكومات هو القاصمة لأية جبهة؛ فكما لو كانت إشارة للآخرين بانتهاء عهد علي، ولم يلحق علي يلملم شتاته هذا حتى قام ينتدب أهل العراق للحرب فلم يخرج منهم أحد، ثم صادف ذلك مقتله على يد الخارجي عبدالرحمن بن ملجم. 

لم يكن ابن عباس شخصاً عادياً بالنسبة لعلي، بل كان يمثل الرجل الثاني بعد علي في خلافته، ففضلاً عن أنه كان وزير خزانته وعمود اقتصاده، فقد كان يمثل مستشاره السياسي والحربي والديني كذلك، وهو ابن عمه قبل كل شيء، لذلك لم يكن خلافه مع علي شيئاً عادياً بل القاصمة التي قصمت ظهر علي فعلاً. وقد كان ابن عباس على خلاف في الرأي مع علي في كل المحطات المفصلية تقريباً، ومن خلال تتبع بعض آراء ابن عباس في بعض القضايا السياسية والعسكرية نجد أنه كان يمتلك الصواب في كل منها تقريباً لأنها كانت تتحقق كما يتنبأ بها، بينما علي لا يلتزم برأي ابن عباس ويخالفه في كل منها، وكانت كل مآلاتها تعود سلباً في علي ودولته، وهذا ينبئ عن معرفة من ابن عباس وبعض دهاء منه.

فالحادثة بتمامها، كما ذكرها ابن خلدون في كتابه العبر:

أنه في سنة أربعين فارق عبد الله بن عباس علياً ولحق بمكة، وذلك أنه مر يوماً بأبي الأسود ووبخه على أمر، فكتب أبو الأسود إلى علي بأن ابن عباس استتر بأموال الله، فأجابه علي يشكره على ذلك، وكتب لابن عباس ولم يخبره بالكاتب، فكتب إليه بكذب ما بلغه من ذلك وإنه ضابط للمال حافظ له‏.‏

فكتب إليه علي‏:‏ أعلمني ما أخذت ومن أين أخذت وفيما وضعت، فكتب إليه ابن عباس فهمت استعظامك لما رفع إليك إني رزأته من هذا المال فابعث إلى عملك من أحببت فإني ظاعن عنه، واستدعى أخواله من بني هلال، فجاءته قيس كلها فحمل المال وقال‏:‏ هذه أرزاقنا، واتبعه أهل البصرة، ووقفت دونه قيس، فرجع صبرة بن شيمان الهمداني بالأزد وقال قيس‏:‏ إخواننا وهم خير من المال فأطيعوني‏.‏ وانصرف معهم بكر وعبد القيس، ثم انصرف الأحنف بقومه من بني تميم وحجز بقية بني تميم عنه، ولحق ابن عباس بمكة( )‏.

‏ كعادة السلطات في العالم قديماً وحديثاً فإنه حينما يتم التخلي عن الحاكم أقرب المقربين إليه، ووزير خزانته المالية التي هي عمود الدولة، ويرى بقية الناس ذلك الأمر يسارع الجميع للتخلي عن الحاكم؛ أي حاكم، ويكشفون ظهره للعدو، ويسلمونه إلى مصيره، وهو ما كان مع علي من قبل ابن عباس وأخواله بني هلال وبقية القبائل في العراق، ولم يأت ابن ملجم لعلي إلا في نهاية دولته بعد أن تزلزلت دولته ووهنت قوته، وانكشف ظهره، وظهر أن قتل علي -رضي الله عنه- من قبل ابن ملجم طان خلاصاً مشرفاً له من الهزيمة أمام معاوية؛ فلعمري لو أنه تعرض للهزيمة أمام معاوية لكان كل شيء بالنسبة انتهى؛ مكانة وسمعة وتاريخاً وهالة قدسية من قبل مشايعيه!

وارجح أن قصة ابن عباس كسابقتها بالضبط مع قصة قيس بن عبادة من قبل معاوية؛ حيث استخدم معه المكر والخديعة ليزيحه من جبهة علي، فما كان أحد يخشاه معاوية كخشيته من قيس بن عبادة أكثر مما خشيته من علي نفسه، وأرجح أن من كتب الرسالة إلى علي هو معاوية وليس الأسود الدؤلي للإيقاع بين الرجلين وتشتيت شملهما وإضعاف جبهتهما كما فعل مع قيس، حين أرسل كتاباً كاذباً إلى علي أن قيس قد صار معه وبايع وخلع بيعة علي، فما كان من علي إلا أن خلع قيس بن عبادة عن ولاية مصر دون أن يتثبت من الأمر، فقد كان الرجلان يتنافسان على مصر لأنها أكثر الموارد المالية للمسلمين حينها. 

ونجد أن ابن عباس، بعد مبايعته معاوية، بعد استشهاد علي، يثني على معاوية ويقول فيه: "ما رأيت رجلًا أخلقَ بالملك من معاوية"! هذه الشهادة واحدة من اثنتين: إما أنه رآه حقاً أجدر بالولاية من علي وقد خبر الرجلين بصحبتهما والتعامل معهما، وهي الجدارة السياسية بطبيعة الحال، وإما أنه كان يجامل معاوية كملك، كما يفعل الكثير من الناس في مجاملة الملوك. 

ومن خلال سيرة معاوية وتعامله وسياسته الناس فإن المتابع والقارئ المتفحص لسيرتهما يجد أن معاوية فعلاً كان أجدر بالملك من علي -رضي الله عنهما- من الناحية السياسية والتعامل بنواميس النصر الكونية؛ حيث استخدم كل الوسائل دون قيود في سبيل تثبيت حكمه، لولا أن العوامل التي سردناها زادت تعقيدات الأمور على علي ولم تجعله يستقر في الحكم.

بينما علي -رضي الله عنه- ركن إلى مبادئ الناس وإيمانهم، واعتبار الحق الشرعي معه بالمبايعة. فالركون إلى المبادئ غالباً لا يجدي نفعاً في الحكم والسلطة فإن "الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن" كما جاء في حديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم- وقد رأينا أن عمر بن عبدالعزيز الذي ملأ الأرض عدلاً وكان حكمه وعصره أزهى عصور الإسلام وحتى لم يوجد فقير واحد في عهده لم يجد نفعاً معه كل ما فعل مع الآخرين وتعرض للقتل بالسم على يد بني أمية أنفسهم، كما حصل مع آخرين أيضاً. ما حيرني كثيراً من خلال هذه القراءة وتتبع هذه القضية هو أنه طالما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يتنبأ بكل تلك الأحداث لمَ لمْ يول عليهم خليفة أو يأمر بترتيب الأمر من بعده اتقاءً للفتنة؟!

 فهذا فيه كثير من التساؤل: هل إن الرسول صلى الله عليه وسلم أوصى ولم يتم العمل بوصيته؟ أم إن من سيطر على الحكم من الملوك الأمويين أرهبوا الرواة والناقلين والمدونين لتلك الأحداث فدونوا ما أراد الحاكم فقط، خاصة وهناك بعض القرائن على ذلك ومنها حديث معاوية - رضي الله عنه- في خلافة قريش، وكذلك تأليف بني أمية بعض الأحاديث التي وضعها المحدثون واعتبروها غير صحيحة وملفقة!!

لقد كان واحداً من الإجابة على هذا التساؤل هو أن الرسول ترك الأمر شورى للمسلمين، كاجتهاد لحظي بحسب الظروف ومستجدات الأحداث. فقد كان يصور الأحداث ويتنبأ بها دون مقدرته على التدخل فيها، وهذا نجده في الحديث الذي رواه علي بن أبي طالب نفسه عن الرسول، حدثنا أبو سعيد، حدثنا إسرائيل، حدثنا أبو إسحاق، عن الحارث، عن علي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو كنت مُؤمِّراَ أحداً دون مشورة المؤمنين، لأمَّرتُ ابن أم عبد"( ). لكن الأحداث بعده كانت جللاً، ويبدو أنه وضع بعض الإشارات للمسلمين لتلافيها أو حلها ولا أظنه بعد علمه ذاك بها أن يتركها هملاً، وقد كان يوصي صاحب كل حدث بوصية معينة، كما أوصى عثمان وعلياً في مصيرهما المحتوم. وقد كان - صلى الله عليه وسلم – دائماً يحث على التمسك بكتاب الله كمخرج من الفتن بعده.

فهناك حديث قبل وفاته وهو يحتضر أنه أمر بإحضار كتاب وقلم ليوصي للمسلمين عهداً عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا حُضِرَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: وَفِي الْبَيْتِ رِجَالٌ فِيهِمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَالَ: "هَلُمَّ أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ"، قَالَ عُمَرُ: إِنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- غَلَبَهُ الْوَجَعُ وَعِنْدَكُمْ الْقُرْآنُ فَحَسْبُنَا كِتَابُ اللَّهِ، وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْبَيْتِ، وَاخْتَصَمُوا، فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ قَرِّبُوا يَكْتُبْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كِتَابًا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ مَا قَالَ عُمَرُ، فَلَمَّا أَكْثَرُوا اللَّغَطَ وَالِاخْتِلَافَ عِنْدَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "قُومُوا عَنِّي". قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: فَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: إِنَّ الرَّزِيَّةَ كُلَّ الرَّزِيَّةِ مَا حَالَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَبَيْنَ أَنْ يَكْتُبَ لَهُمْ ذَلِكَ الْكِتَابَ مِنْ اخْتِلَافِهِمْ وَلَغَطِهِمْ"( ).

الحجر الصحفي في زمن الحوثي