ولاية علي بن أبي طالب بين تزوير الإمامة والحقيقة التاريخية (12)

توفيق السامعي
الأحد ، ٣١ يوليو ٢٠٢٢ الساعة ٠٧:٠٨ مساءً

الزهد في اعتزال الفتنة فتنة

لقد كانت الفتنة في الثورة على عثمان عظيمة؛ لأنها تأتي من الصف الداخلي للمسلمين من بينهم هم أنفسهم، لها مآرب متعددة تستر مشعلوها بالدين ومصالح المسلمين وبعض المطالب البراقة التي تبدو للناس مطالب حقيقية لا غبار عليها، ومنهم من تربص لمآلاتها ليدرك أين يضع قدمه فيها، حتى اختلط الأمر على كثير من الناس وفيهم بعض الصحابة – رضوان الله عليهم.

هذه الفتنة لم تدع بيتاً من بيوت المسلمين إلا ودخلته، فنجد في إطار البيت الواحد بعد ذلك انقساماً؛ في بيت عمر بن الخطاب؛ عبدالله بن عمر يعتبر الأمر فتنة ويعتزل تلك الفتنة، وأخوه عبيد الله يناصر معاوية، وفي بيت أبي بكر نجد عبدالرحمن بن أبي بكر يقاتل في صف معاوية، رغم أن ابن خلدون يذكر أنه بايع علياً بعد موقعة الجمل( )، لكن الطبري يذكر أنه كان مع عمرو بن العاص في مصر عند مقتل أخيه محمد، وأخوه محمد يقاتل في صف علي، والقبائل الواحدة والأسرة الواحدة تنقسم؛ قسم يقاتل مع علي وقسم منها مع الزبير وطلحة فيقتل هؤلاء هؤلاء ولا يدري أحدهم لم يتقاتل الأهل وأبناء العمومة فيما بينهم، كما تم الصياح في ذلك في موقعة الجمل، وبعض نساء الرسول - أمهات المؤمنين- منقسمات أيضاً؛ عائشة تطالب بدم عثمان وتخرج إلى البصرة، وأم سلمة تدعم علياً وترسل ابنها سلمة للقتال معه، وحفصة كانت ستخرج مع عائشة فمنعها أخوها عبدالله بن عمر!

عند الثورة على عثمان نجد روايات كثيرة لمواقف بقية الصحابة، اختلط بعضها ببعض، وجعلتنا نحن القارئين لتلك الروايات المتعددة في حيرة من أمرنا؛ بعض الروايات تورد مواقف جيدة وتمحيصاً لمواقف بعض الصحابة، وبعضها تصور لنا مواقفهم سلبية للغاية، وهذه الروايات تتكرر مع المؤرخين الآخذين بعضهم عن بعض، مع بعض الترجيحات، لكن هناك النزر اليسير مما يمكن الخلوص إليه في هذه المواقف والتي نجد لها دائرة ضيقة ونواة يمكن البناء عليها، والله أعلم بالصواب؛ فالكيد كان عظيماً. فإذا كان الأمر يتلبس علينا في قضية من القضايا التي نعاصرها ونعايش أحداثها فكيف بتلك القضية منذ ألف وأربعمائة عام!

فمعظم الروايات تقول إن كثيراً من الصحابة اعتزلوا تلك الفتنة، والاعتزال في مثل هذه المواقف يفسح الطريق أمام الفتنة لا يحاصرها، وتبني المواقف والانحياز إلى الحق محاصرة لها وتقليل حجمها وتشجيعاً للحق على الصمود وأوهى للباطل حتى لا يتمادى.

فاعتزال الفتنة - زهداً- من معظم الصحابة أتاح الفرصة لقتلة عثمان وخلى بينهم وبينه، وليس زهداً أبداً، بل كان من صميم الزهد أن يكون لهم موقف صلب من انتهاك المدينة، وقتل خليفة منتخب ومبايَع من قبل عموم المسلمين، ومن حمل السيف مع عثمان للدفاع عنه وعن المدينة كان أكثر زهداً من المعتزلين لها، وموقف عائشة كان من هذا الباب كونها اتخذت موقفاً صلباً من قتل خليفة المسلمين، فهو من صميم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعدم خذلان الخليفة وهو ولي أمر المسلمين جميعاً. 

مع أن رواية الجوزي تقول إن الثوار الخوارج على عثمان حاصروا علياً والزبير وطلحة، كما تقول بعض الروايات أيضاً عند الطبري وغيره. ففي حديث أبي بكر الصديق - رضي الله عنه- توضيح لهذا الأمر، وفقه للواقع..ففي الحديث حدثنا يزيد بن هارون قال: أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، عن أبي بكر الصديق قال: أيها الناس، إنكم تقرأون هذه الآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ}( )، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقابه"( ). وقد كان أبو بكر الصديق - رضي الله عنه- أفقه الصحابة، وقد جاءه عمر يراجعه عن قتال المرتدين، فأبى أبو بكر إلا قتالهم. ففي الحديث الذي رواه محمد بن يزيد قال: أخبرنا سفيان بن حسين عن الزهري، عن عبيد الله بن عبدالله بن عتبة بن مسعود، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإن قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله تعالى". قال فلما كانت الردة قال عمر لأبي بكر: "أتقاتلهم وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول كذا وكذا؟!، قال: فقال أبو بكر: "والله لا أفرق بين الصلاة والزكاة، ولأقاتلن من فرق بينهما"، قال: فقاتلنا معه فرأينا ذلك رشدا"( ). 

الشاهد في الأمر أن الزهد في موطن قول الحق وفعله لا يعد زهداً بل هو جبن وانسحاب، وإفساح المجال للظلمة والمخربين ومفرقي صفوف الأمة. فلو كان أبو بكر حياً وشاهداً لذلك الموقف هو أو عمر ما ترددا عن قتال أولئك الخوارج الذين خرجوا على عثمان وقتلوه ظلماً، وما انسحبا من الميدان ليتركا الفراغ للتخريب والانقلاب، وقد رأينا أبا بكر ذلك المسالم الموادع اللين الجانب في عهد النبي، والذي كان كثير من الصحابة يخاف من موادعته ولينه على حزم أمور الدولة والمسلمين، حينما رأس الدولة كان ذلك القوي الحازم غير المتردد، الذي قال لعمر بن الخطاب الشديد الغليظ الذي لا يهادن أبداً في الإسلام حين جاءه يراجعه في عدم إرسال جيش أسامة إلى الروم والإبقاء عليه في المدينة لقتال المرتدين: "أجبار في الجاهلية خوار في الإسلام يابن الخطاب؟! والله لأقاتلنهم على عقال بعير كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم".

وبالتحليل المنطقي لهذه الفئة أو الفريق فإنها أفسحت الطريق لتلك الفتنة وعدم الوقوف في وجهها، إلا أن يكونوا مغلوبين وليس بيدهم حيلة، وفرقة رابعة مؤيدة لعلي على تردد وتشكك، وسنجد أن هذه الفرقة التي معه ستتشظى عليه أيضاً وسيكون الخوارج والسبئية منها، وسيكون على علي أن يحارب في كل اتجاه، ولذلك بدا موقفه صعباً للغاية، بينما موقف وصف معاوية يتعزز ويقوى ويتلاحم، وكل من يطالب بدم عثمان لحق به في الشام. 

فعدم تحرك بعض الصحابة لحماية عثمان منذ البداية، وجاء التحرك بعد مقتله من أكثر الأشياء المستغربة والتي لا يتقبلها منطق، ولم يغن عن عثمان وعن الأمة شيئاً وقد قتل عشرات الآلاف من المسلمين بينهم صحابة وقراء وعلماء وسابقية، إلا أن يكون الصحابة قد رأوا أنه لا يمكن أن يتمادى الثائرون على عثمان بالوصول إلى قتله، لكن أمر هذا القتل كان ينبغي أن يبقى في أذهانهم وتوقعاتهم، خاصة وأن الخليفة الذي سبقه قتل غيلة من قبل المجوس، فكان الأحوط أن يتم الاستعداد لحماية عثمان بما استطاعوا، لا يتركونه للقتل ثم بعد ذلك يذهبون للمطالبة بدمه، ويقيمون حرباً ضروساً على بعضهم في ذلك، فلئن كان عثمان صرفهم عنه وضحى بنفسه حتى لا تراق الدماء فقد أريق منها أكثر مما كان سيراق بالدفاع عنه ويتم وأد الفتنة من جذورها.

لقد رأينا في نهاية عهد معاوية حينما أراد أن يجعل ولاية العهد في ابنه يزيد ما وقف في وجهه إلا عبدالرحمن بن أبي بكر معارضاً وبقوة، فقال له قولته المشهورة: "أردتموها هرقلية كلما مات هرقل قام هرقل آخر"، ثم لحق به من بعده معارضة لما رأوا قوة موقفه عبدالله بن عمر بن الخطاب، وعبدالله بن الزبير، والحسين بن علي، وكل هؤلاء قتلوا بعد ذلك ما خلا عبدالله بن عمر، وقد كانت نهاية عبدالرحمن بن أبي بكر تشبه إلى حد كبير نهاية الأشتر؛ فهناك بعض الروايات تقول إن معاوية سمه بين مكة والمدينة وقد كان خرج مغاضباً من المدينة إلى مكة واعترضه معاوية للحديث في أمر معارضته لولاية يزيد فكانت نهايته بعد ذلك اللقاء.

لقد رأينا في زماننا وفي بلدنا مثل هذا الأمر؛ لقد وجدنا كثيراً من القوى السياسية، وكذلك من بعض الحركات السلفية تقول إن الذي جرى في بلادنا فتنة وإنها معتزلة الفتنة، مع أن القضية واضحة وضوح الشمس أنها انقلاب على الدولة وتدمير مؤسساتها، من قبل شرذمة خرجت على الدولة وولي الأمر وشقت عصا الطاعة وشقت صف المسلمين فقتلت ودمرت وأحرقت ونهبت وجعلت اليمن في الحضيض وجاء من يقول من أولئك إنها فتنة وهم معتزلونها!!

لذلك نحن اليمنيون اليوم نشعر بنفس الشعور المخذل الذي حصل لعثمان، واعتبار الأمر زهداً وفتنة، حتى أفسحت الطريق للقتلة لقتل عثمان وإدخال المسلمين في فتنة لم تبقِ ولم تذر، وقد عرف مثل ذلك الأمر صانع الكون ومدبره وعالم النوايا وهو رب العالمين عن قوم جاؤوا يستأذنون النبي صلى الله عليه وسلم في التخلف عن القتال حتى لا يفتتنوا، فأنزل الله عليهم قوله تعالى: ﴿وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا﴾( ).

الحجر الصحفي في زمن الحوثي