مأساة ملشنة الجيش .. بصراحة وبدون زعل

د. محمد شداد
السبت ، ١١ سبتمبر ٢٠٢١ الساعة ٠٥:١٨ مساءً

دأب بعض حكام اليمن على تكريس النظام الميليشياوي من المرحلة التي سبقت ثورة 26 من سبتمبر، كتعبير واقعي عن التخلف الذي كانت تعيشه أنظمة الامامة، لأنها كانت تعتمد على القبيلة الزيدية في كل حروبها  كحشد شعبي غشوم، يتدفق عند أول صيحة على اعتبار أن الامام ابن الله ومخالفة أوامره جريمة، وحتى لا تصيبهم  دعوته المستجابة!!  كانوا يخافون دعوته التي لا تصيب عدوهم  كما رد أحد أبناء القبائل على مندوب الامام، بأنه سيدعو عليهم إذا ما رفضوا الذهاب لحرب قبيلة الزرانيق، رد الشاب على ذلك المندوب قل للإمام يدعو على الزرانيق إذا كان مستجاب الدعوة "ويسكهنا الشغلة" ولهذا لم يبن جيشاً حتى لا يتحمل تكاليفه ويأمن الانقلاب ضده. فكانت ميلشيا قبلية "تسمى جيش" تهب لتقتات وتنهب تحت مسمى الجهاد حتى ولو هلكت ولم يرجع منها أحد،  كحالة الميلشيا الحوثية التي تذهب للجهاد ضد اليمنيين! حد قولها وهي لا تحلل حلالاً ولا تحرم حراماً، حتى الزينبيات تساق إليهم لارتكاب الفواحش في رؤوس الجبال بل حتى الشذوذ يُمارس من قادة المجاهدين! تجاه الزنابيل الصغار بحسب الروايات التي اكدها الكثير من المقاتلين في صفوفهم.

أكذوبة الجهاد السلالية سحقت ثلثي مواطني شمال الشمال لنصرة دعاة الحق الإلهي والجينات السامية، تأكل في  كل دورة من دورات الصراع أحشاء المجتمع حتى الوجع، تأكل  الشباب ومتوسطي السن، حقيقة يتحدث بها أبناء صعدة وهي أن عزلاً وقرى باتت خالية من الرجال إلا ممن تبقى من النساء والطاعنين في السن..

حدث العبث بعد أن تمكنت مليشيا القبائل وشيوخها من تفكيك جيش ثورة السادس والعشرين من سبتمبر، الذي تم تشكيله في غضون أربع سنوات، كان جيشاً وطنياً احترافي موحد من كل مناطق اليمن، مارس الحرب ضد الإمامة وفقاً لقواعدها وعلوم التكتيك العسكري الحديث حتى انتصر. كان ذلك قبل أحداث الصراع الثوري الدامي يومي 23-24 أغسطس 1968م.

 سطت عليه أي على "الجيش الوطني" ميلشيا وعكفة الإمامة التي تدثرت بأثواب الجمهورية لاحقاً، وأجهضت النظام الجمهوري، واقصت كل رموز الثورة وقادة ذلك الجيش الوطني المخلص، فعلتها بنفسٍ طائفي مذهبي مقيت، تحت ذرائع محاربة الحزبية والشيوعية حورب جميعهم، باستثناء حزب البعث العربي العراقي فرع اليمن الذي كان يرأسه الشيخ مجاهد أبو شوارب اكتسى صفة الوطنية لأن الشيخ كان رئيسه!  أكد الشيخ عبدالله حسين الأحمر في مذكراته أن مجاهد أبو شوارب كان واجهته والقابض لأكياس النقود من العراق يعني "حلال على الشاطر"!  استمر وقوف كهنة المشيخ ضد الحزبية  كونها  كانت حد ادعاءاتهم خطراً على الدين والوطن، ولم يكن ذلك حباً في الدين أو حرصاً على مصلحة الوطن، وإنما حرصاً على استمرار تدفق الأموال من الجهات الداعمة لذلك التوجه حينها، ولكي تستمر فوضى النهب المالي والإداري والتسلط، وإهدار إمكانيات الدولة والمال العام.

حاول الشهيد ابراهيم الحمدي توحيد الجيش بعد توليه الحكم، والذي كان جيوشاً يعبث ويعتدي على المواطنين كما قال في أحد خطاباته، وعزل المشائخ من قيادات تلك الميليشيات التي اطلقوا عليها مسمى جيش، حاول إعادة تشكيله وصياغته على أسس مهنية وعلمية يحدوها الولاء لله ثم الوطن.

تم اغتياله فكان خصوم تلك السياسة أسرع فاغتالوا باغتياله المشروع، ارتكبوا بحقه وحق الشعب اليمني جريمة شنعاء جرحت الضمير الإنساني داخل اليمن وخارجه، مثل اغتياله نكبة لليمن كالنكبة التي أصابت العرب في حرب 1967م حد تعبير الخبير العسكري الاستراتيجي الأردني فائز الدويري، وقطعوا بذلك خيوط آمال اليمن المرجوة فعلوا ذلك بعد أن أزاحوا القاضي عبدالرحمن الارياني من الرآسة بحجة انتمائه الحزبي، ولأنه كان يرفض تدخلهم العنيف في شؤون الدولة وبدأ بالتعامل مع القوى الوطنية الحديثة..

وما إن أزيح الحمدي الذي كان لديه مشروع بناء دولة من المشهد حتى أعيدت فوضى ملشنة الجيش من جديد عن طريق إقصاء القادة الوطنين وعدم السماح لأبناء مناطق معينة من الالتحاق بالكليات العسكرية دون أي مبرر سوى النفس الطائفي والمناطقي الحال في عقول عكفة الامامة وأذنابهم، معضلة الأمس واليوم وغداً إذا استمروا. 

تم الدفع بعلي صالح للرآسة تماهى مع القبيلة وشيوخها خوفاً منها على سلطانه وطمعاً في دعمها له، وعمل هو أيضاً على ملشنة الجيش الجمهوري وبناء جيش آخر " الحرس الخاص- والحرس الجمهوري" كجيشٍ خاص به، فكانت تشكيلاته، قادته، وأفراده،  من مناطق معينة بناه "بناء طائفي" كي يضمن ولائه المطلق، غير أنهم باعوه في بداية الطريق وانساقوا مع أعدائه الذين تسللوا إليه ك الأفاعي بمعرفته وتحت نظره.

 وبالتالي كانت نتائجه عكسية انقلبت عليه، أفاق على كارثة انحراف جيش بُنيَ على حساب الوطن، تنميته صحته وتعليمه، ولقمة عيشه، انقلب ميليشيا محترفة تقاتل في صفوف الميليشيا، بل الدبابة التي قصفت منزله عند استشهاده كانت من ذلك الجيش الهجين، لم يكن متوقع أنه سيتحول بتلك السرعة والخفة وينحاز إلى صف عدوه، ويمطر كل مدن الجمهورية الرافضة للمشروع الحوثي بصواريخه وقذائفه.

لن تنتهي مآسي "الملشنة" بل ستتكرر تحت غطاء النظام الجمهوري، طالما والحقد الطائفي والمناطقي قائم خطاباً وممارسة، قد يُتهم كاتب هذه السطور بالمناطقية! لأنه ركز على نكبات اليوم مؤصلاً لأسبابها في الماضي، وتلك هي الآلام التي كان يخشى الناس من البوح بها خوفاً على حياتهم وكرامتهم والزج بهم في غياهب السجون بتهمة الخيانة وعدم الولاء.

 فشت الجهالة لدرجة أن تولي المناصب في الجيش كانت تأتي المشايخ  كان الضابط الخريج من أي كلية تأهيل عسكرية، بدلاً من التوجه إلى وزارة الدفاع لعرض أرواقه ومؤهلاته للحصول على عمل مناسب، يذهب إلى شيخه يترجى دعمه بحثاً عن عمل، مفارقات عجيبة وممارسات لم تحدث في أي أجيش من جيوش العالم، بالذات في تاريخنا المعاصر، إلا في اليمن بلاد ثقافة الملشنة التي  وإذا ما أمعن احدٌ النظر في جيوش اليمن اليوم سيرى تلك الظاهرة لا زالت حقيقة وبارزة للعيان.

الحجر الصحفي في زمن الحوثي