نكبات الإنسان الفرد والمجتمع والشعب والدولة، تؤدي إلى نكبات الإنسانية، بكل مسميات الصراعات والحروب، وهذه النكبات التي تطال الإنسانية والإنسان، والتي اسماها المنهج القرآني بهلاك القرى، تقوم على قاعدة الصراع بين المصالح والمبادئ، فعندما تهيمن المصالح على القيم والمبادئ، حق قول الله - وقوله الحق- على هلاك القرى، والعكس صحيح عندما تهيمن القيم والمبادئ في حياة الإنسان الفرد والمجتمع والشعب الدولة، تنهض الأمة وتُحقق العبادية والاستخلاف والنهضة. ومنظومة هيمنة المصالح تقوم على منهجية الشيطان، الذي بدأ بغواية الإنسان، بمصلحته بالملك الذي لا يبلى وبالخلود، بينما منظومة القيم والمبادئ، تقوم على منهج الرحمن، الذي حدده صراطه المستقيم، المُوجّه لعمل الصالحات، وحين يسير عليه الإنسان والإنسانية، يحققان سعادة الدنيا والآخرة، وصراط الله بَيّن، وسبيله أوضح من نور الشمس، لأنه منهج الله وفطرته في خلقه، وحقيقة الوجود الإنساني وسعادته، وجوهر دين الله الواحد "الإسلام" بمختلف ملله الحنيفية، واليهودية، والنصرانية، والمؤمنون. صراط الله المستقيم هو المنظومة المتكاملة لدين الإسلام، بقيمة وتشريعاته وشعائره، به يعرف سبيله وبغيره تتفرق به السُبل، وبتطبيق وممارسة هذه الثلاثية لدين الإسلام، تتحدد علاقته بالله وخلقه، من خلال منظومة القيم والمبادئ لا المصالح، ويتحقق بذلك هدف خلق الإنسان بالعبادة والاستخلاف. وعبر مسيرة الأنبياء والرسل، وإبلاغهم لدين الله الواحد الإسلام، بملله المختلفة، رافقت عناية الله خلقه، لتجعل من ثلاثية "التشريع والشعائر والقيم" مكملة ومتكاملة لتطور الإنسان، فقامت التشريعات على "التغيُّر" والشعائر على "الاختلاف" والقيم على "التراكم" حتى أكمل الله دينه وأتمه، بالملة الخاتم "ملة المؤمنون" التي حمل رسالتها ونبوتها خاتم الأنبياء والرسل محمد(ص) للناس كافة وللعالمين فكان محمداً (ص) أول المسلمين بالدين الكامل المكتمل التام. وأتم الله وأكمل تشريعاته -التي قامت على التغيير- بالرسالة الخاتم، حيث أوجد بها الأسس والمبادئ، التي تقوم بها وعليها التشريعات، لتكون للناس كافة والعالمين، وتحمل الرحمة، ورفع الأُصر والأغلال الموجودة فيما سبق من تشريعات، فاختص الله ذاته بالمحرمات "الحاكمية الإلهية" وعدّدها وفصّلها وبيّنها في كتابه، لتميزها بالشمولية والأبدية، وهما صفتان لا تتوفران في غير الله، وترك للإنسان المشاركة في تشريع الأوامر والنواهي الربانية، كنهيه سبحانه عن التجسس، صوناً لكرامة الإنسان، لكنه ترك التشريع الإنساني، ينظم التجسس، على الأعداء والعصابات، المفسدة والمهددة لحياة الإنسان، وترك له التشريع الإنساني فيما يُستجد في حياته -وفق ضوابط القرآن والصراط المستقيم- مثل تنظيم قوانين المرور، والطاقة الذرية والبناء، وهذه هي مساحة التشريع الإنساني، في متغيرات الزمان والمكان، لما يكفل للإنسان، إنسانيته وحريته وكرامته، ليحقق بهما العبادية والاستخلاف فلا عبادية ولا استخلاف دون الحرية والكرامة. وتغيرت الشرعة والمنهاج والمناسك، كشعائر تربط الإنسان المخلوق بخالقه، بِتَغيُر الملل المختلفة، فلكل منها جعل الله شرعة ومنهاج، واتمها الله وأكملها بملة المؤمنين، بجمع المشخص "الكعبة" والمجرد "الصلاة" في شعائرها ومناسكها، فربط الصلاة والحج بالكعبة. وتراكمت القيم الفردية والأسرية والقبلية والمجتمعية، عبر مسيرة ملل دين الإسلام المختلفة، من "لا تقربا هذه الشجرة" حتى اكتملت وتمت بالقيم الإنسانية التي حملتها الرسالة الخاتم للناس كافة، لتجمع القبائل والشعوب على التعارف والدفع "التنافس" رافعة قيمة الحرية لكل الناس، ليختاروا بحريتهم بين الإيمان والكفر، مانعة جنس الإكراه، حتى في الدين، محرمة قتل النفس والعدوان، موجبة نُصرة المستضعفين، من الرجال والنساء والولدان، كما وصف الله. ومنعت هذه القيم والتشريعات والشعائر التمييز بين الناس، وجعلت التمييز يقوم على التقوى فقط وليس على شيئ آخر. هذه القيم الإنسانية المرتبطة بالإنسان كإنسان، دون علاقة بجنسه ولونه، وقبيلته وشعبه، حددها الله بعملين وطريقين، عمل الصالحات، والصراط المستقيم، وجعلها الله ركيزة تكتمل بها دائرة الإيمان، فلا إيمان دونهما. ولذلك منظومة القيم الإنسانية هي جوهر الدين بملله المختلفة، تستهدف سعادة الإنسان وتؤخذ كاملة دون تجزيئة أو نقصان، فمثلا لا يوجد إيمان بالله، ولا حق، أو صدق، أو حرية، بنسب متفاوتة، بل هو كمال واكتمال، للإيمان بالله، والحق، والصدق، والحرية، يقوم على أن يتقي الإنسان الله حق تقاته، دون تجزئة أو نقصان، ومن هنا كان أمر الله للمؤمنين بأن يتقوه حق تقاته، مقصود بها منظومة وعلاقة القيم الإيمانية التي تربطهم به سبحانه، ومنظومة وعلاقة القيم الإنسانية "الرحمة والتعارف والتدافع" التي تربطهم بكل الناس على اختلاف مللهم وشعوبهم وألوانهم. فلا يجب أن تكون الحرية لك لا لغيرك، ولا يجب أن يكون الصدق لصالحك لا لصالح غيرك، ولا يجب أن تكون الكرامة لك لا لغيرك، ولا الحياة لك لا لغيرك، ولا الاقتصاد لك لا لغيرك. فمنظومة القيم والمباديئ لا تتجزأ حقيقة قرآنية ربانية، تحفظ التوازن الإنساني، والكرامة الإنسانية، والتعارف والعيش المشترك، وأي خلل في ميزانها، يؤدي للاستئثار والهيمنة، والغاء حقوق الآخرين، مما يؤدي لحروب ودمار، للإنسانية، والمجتمعات، والدول، والشعوب، وهذه هي حقيقة معاناة الإنسان وضنكه، وهي جوهر مشكلة الصراع في اليمن والمنطقة والعالم، والتي تحكمها قاعدة نحن لا أنتم، أنا لا أنت. وكل ذلك جوهره أزمة ثقافية بوعي جمعي مغلوط، تقوم على تجزئة وانتقائية للمبادئ والقيم، وخروج عن صراط الله المستقيم، فهي ازمة الإنسان في كل زمان ومكان، تتكرر بشعارات ومسميات مختلفة، دون عبرة واعتبار، تُسقط الإنسان من إنسانيته، لمرتبة أدنى وأضل من الأنعام، في وحشيتها وجهلها وطغيانها. د عبده سعيد المغلس ٣٠ يوليو ٢١
-->