الإسلام والهالة المصطنعة د.عبدالقوي القدسي

د. عبدالقوي القدسي
الثلاثاء ، ٢١ ابريل ٢٠٢٠ الساعة ٠٨:١٦ مساءً

 

الهالة تعني الدائرة الساطعة حول القمر في السماء، أو حول الشمس[1] ، وإحاطة الإنسان نفسه بهالة مصطنعة إنما  يقصد من خلالها تحقيق مصلحة مادية أو نفسية والشعور بالتميز عن الآخرين، والأفضلية ، وقد يقود الأمر إلى ادعاء الحق بالسلطة أو السيطرة بسبب تلك الهالة.

إذا سمعت عبارات الإطراء والمديح والثناء تنهال على صاحب مالٍ أو جاهٍ أو سلطة، وقصائد تتلى في ذكر محاسنه، وحجاب يحول دون الوصول إليه إلا بِمَنِّه وفضله ، ومبالغة في ذكر أوصافه فأنت أمام هالة مصطنعة، وإذا رأيت أناساً يطوفون حول شخص ويزدحمون للوصول إليه، والظَّفر بدعوة صالحة منه،  فقد صنعوا له هالة، وإذا ارتجفت له قلوب الناس، ونُسجت حوله قصصاً من الخيال تحكي للناس عن شجاعته وفرط قوته وتأييد السماء له وعمل الجن بين يديه فانت أمام هالة مصنوعة. والأمثلة في الهالة المصطنعة كثيرة، فصناعة الهالة فن ولكل مجتمع فنونه الخاصة به .

حارب الإسلام وبلا هوادة كل صور الانحراف في الجوانب العقائدية، والاجتماعية ، والسياسية والاقتصادية، وجاء ليؤسس لقواعد راسخة تحقق للإنسان العدل، وتحقق له الأمن على النفس والمال وتحميه من كل صور الإكراه والطغيان. ويكفي ابتداءً النص على تلك القيم الفاضلة للتأكيد على جدية الإسلام في ترسيخ تلك المبادئ.

لقد وقف الإسلام شامخاً أمام كل انحراف عن الفطرة، ونزوع للعبودية أو تكريس للاستعباد، لقد أهال على الهالة المصطنعة التراب، وجعل تقاليد الجاهلية من التفاخر بالأنساب والاعتزاز بالدم تحت الأقدام، ووقف في وجه كل متكبر جبار. لم يداهن ولم يجامل أو يرتضي بأنصاف الحلول.

لقد كانت العرب تتفاخر بأنسابها، وكانت تسيل بسبب ذلك الدماء، وتشتعل الحروب، فجاء نظام الإسلام ليعيد الأمر إلى نصابه، فيقرر بأن الناس كلهم لآدم،  وآدم من تراب ، يقول النبي  ﷺ ” يا أيها الناس: إن ربكم واحد، و إن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي  و لا عجمي على عربي، و لا لأحمر على أسود  و لا لأسود على أحمر إلا بالتقوى، “إن أكرمكم عند الله أتقاكم”، ألا هل بلغت ؟ قالوا: بلى يا رسول الله قال: فيبلغ الشاهد الغائب[2].

وقد حاول قوم ادعاء الأفضلية، فزعموا بأنهم أبناء الله وأحباؤه ، فرد الله عليهم بكل حسم وقوة، ونسف مزاعمهم وأكد للناس بأنهم بشر ممن خلق ، قال تعالى : ﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَىٰ نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ۚ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم ۖ بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ ۚ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ ۚ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ۖ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ﴾ [ المائدة: 18].  نعم . ” بل أنتم بشر ممن خلق” هكذا دون مقدمات ولا مؤخرات !! وعلى هذا الأساس يجب على الناس أن يتعاملوا معهم.

أتى النَّبيَّ ﷺ رجلٌ ، فَكَلَّمَهُ ، فجَعلَ ترعدُ فرائصُهُ ، فقالَ لَهُ : هوِّن عليكَ ، فإنِّي لستُ بملِكٍ ، إنَّما أَنا ابنُ امرأةٍ تأكُلُ القَديدَ “[3] [ صحيح ابن ماجة ] . لقد شعر النبي ﷺ بأن الرجل متأثر بالهالة المعتادة عند مقابلة الملوك الجبابرة أو الأمراء، فخاطبه بخطاب يعيده إلى الوضع الطبيعي ” لستُ بملك ” فهوِّن على نفسك ، أنا ابن امرأة، متواضعة بسيطة كانت تأكل اللحم المجفف، مثلها مثل سائر البسطاء من الناس ، فخفف عن نفسك وتحدث بما تشاء ! وهذا درس عملي في التواضع، وإزالة الهالة المصطنعة.

لقد أكد الرسول ﷺ للناس بأنه بشرٌ مثلهم، وأما الإله الذي يجب أن تصرف إليه العبادات وصنوفف التقديس فهو (الله) الواحد الذي لا شريك له ، وتلا عليهم قول الله تعالى :

﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ۖ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ﴾ [ الكهف:110].

يجب أن نفرق بين الهالة التي يصطنها الناس ويخصون بها قوماً دون غيرهم، وبين الهيبة التي تعني التقدير وغاية الاحترام والهابة التي ينالها بعض الناس بأعمالهم الطيبة، أو بأخلاقهم الراقية دون طلب منهم، والهيبة بهذا المعنى ليست حكراً على أحد، فالأب والمعلم، والنبي والأمير ، والغني والفقير والمرأة والرجل كلهم محل للهيبة.

كان لعمر بن الخطاب (رضي الله عنه) هيبة في قلوب الناس، ولم يكن سبب تلك الهيبة هالةٌ مصطنعة أحاط بها نفسه. لم يكن ليخرج على الناس بزينته مفتخراً، بل لم يكن تعجبه مظاهر الزينة ، ولم يكن ليمضي أمام الناس بالمواكب والحراس، ولم يكن يستدعي الشعراء ويغدق عليهم في العطاء؛ لينظموا القصائد في مدحه ، والتغني بمآثره .

خرَج ذات يوم ، ويده على المعلَّى بن الجارود العبدي، فلقيتْه امرأةٌ من قريش، فقالت له: يا عمر، فوقف لها، فقالت: كنَّا نعرفك مدَّة عميرًا، ثم صِرتَ من بعد عميرٍ عُمرَ، ثم صرتَ من بعد عمر أميرَ المؤمنين، فاتَّقِ الله يا ابن الخطاب، وانظر في أمور الناس، فإنَّه مَن خاف الوعيد قرب عليه البعيد، ومَن خاف الموت خشي الفَوْت، فقال المعلَّى: يا أمَة الله، لقد أبكيتِ أمير المؤمنين، فقال له عمر: اسْكُت، أتدري مَن هذه، ويحَك؟! هذه خولة بنت حكيم التي سَمِع الله قولَها مِن سمائه، فعمرُ أحرى أن يسمع قولَها، ويقتديَ به[4].صاحب الهيبة لا يعنيه أن يكون في السلطة أو في صفوف العامة، ولا يعنيه أن يصفق له الآخرون إن أحسن ولا يضيره أن تناله الألسنة الحداد. الهالة المصطنعة كالبدلة المستعارة، و كالمكياج الزائف، لا يلبث أن يكشف الحقيقة بعد زواله عن صاحبه، ولا يحتاج صاحب الهيبة إلى سلطة لفرض هيبته، ولا لإعلام حتى يرفع من شأنه ، إن هيبته أو احترامه في قلوب الناس، وليس في أعينهم.

لم يكن يعرف مجلس النبي ﷺ من مجلس أصحابه؛ لأنه كان حيتما انتهى به المجلس جلس”[5] [ الترمذي]  وعن ابنِ عمر رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُول الله ﷺ لايُقِيِمَنَّ أحَدُكُمْ رَجُلًا مِنْ مَجْلسهِ ثُمَّ يَجْلسُ فِيه ولكِنْ تَوسَعُّوا وتَفَسَّحوا وَكَان ابنُ عُمَرَ إِذَا قام َ لهُ رَجُلٌ مِنْ مجْلِسه لَمْ يَجِلسْ فِيه. مُتَّفَقٌ عليه.

مما سبق، ندرك منهج الإسلام في محاربة الهالة المصطنعة وإعادة البشر إلى بشريتهم، والنظرة المتساوية إلى الناس، والهالة ما هي إلا صنيعة أيدي الناس الناشئة عن اعتقادات مغلوطة سرعان ما تنكشف حقيقتها عند عودة الإنسان إلى أصل الفطرة . وهذا كله لا يعني إنكار الإسلام للهيبة التي يمتاز بها بعض الناس، والتي ينشأ عنها تبجيل واحترام ولا يترتب على عدمه ضرر مادي أو نفسي على الآخر .

الحجر الصحفي في زمن الحوثي