أبناء قرانا يموتون بصمت

صقر الصنيدي
الاربعاء ، ١٨ ديسمبر ٢٠١٩ الساعة ٠٣:٣٢ مساءً

الأغلب أنّ لون تلك القطعة القماشية رمادياً، أو ربما مرور السنوات أفقدها لونها. كانت تكفي فقط لتغطية النصف العلوي من جسد أخيه الصغير، وكنا محشورين في سيارة مكشوفة للشمس وللعيون التي اعتادت النظر إلى العابرين. قال أحدنا، هل سيوقظه صوت الأغاني؟ فهزّ رأسه نافياً. توقعنا أن يكون ممن يساعدهم صغر سنهم على النوم بعمق.

أسفل "نقيل السبيل" الذي يربط بين سائلة "نخلة" ومنطقة "كشران" التابعة لشرعب السلام كانت أشجار كثيفة تظلل امرأة تقف وحيدة، حين تسلّمت إبنها من إبنها صرخت وهي تردد حروفا ثلاثة، وربما فاجأها أن لديه ذلك الصوت القوي!

عرفنا أنه كان ميتاً وهو بجوارنا، تذكرنا أننا كنا نغني ونصفق في طريقنا، وبجوارنا طفل عجز أطباء مستشفى يقع في سوق "الحُرية" عن إنقاذه! لماذا كنا نغني؟ سأل كل واحد منا ذاته! لأننا لم نكن نعرف..! بكاء الأم الذي أوقف سيرنا قليلا فقط بعث المزيد من العتب لدينا، السائق أخرج العملة النقدية التي دفعها الصبي وأخذ يقلّبها، أوجعه شكلها من جديد. لماذا لم يلحق الطفل ويعيد إليه ما دفع؟! كنا أمام لحظات يفقد المرء فيه حسن التفكير. لم يفتح باباً ولم ينزل السائق، وحدها الدموع نزلت فأخفيناها عن بعضنا.

بين هذه الجبال لا يُسمح بالبكاء إلا في موت الأب أو الأم، وكثيرون يرفضون حتى هذا الاستثناء. لم ننزل للمواساة. ظللنا فقط نتذكر كيف كنا نقول له: إرفع أخاك، ولم يتحدث! وندفعه ليكتفي بأقل مساحة صغيرة بيننا. لم نسأله عن اسمه أو اسم الصغير الذي في حضنه أو عمره، أو لِمَ هو نائم طيلة ساعة ونصف..! لم نقل له هل تعبت من طول الطريق؟

ففي هذه السيارات المكشوفة التي تُقلُّ متسوقين من مختلف القرى المتباعدة يهتم الناس بالتشبث بها والامساك بالمقتنيات البسيطة. كنا أيضاً مشغولين بتجنيب أجسادنا بقايا مياه الامطار المنبعثة من تحت السيارات المسرعة التي تمر مقابلنا. هو لم يحب إخبارنا بشيء ولم يوحِ وجهه بذلك، هو صامت، وعندما أتذكره بعد سنوات طوال لا يتحدث أيضاً..!

أبناء قرانا المتباعدة لا يتحدثون حين يحملون أجساد أحبائهم. حين يموت أبناء قرانا لا يريدون أن يعرف أحد أنهم ماتوا. يموتون بصمت. وهم اليوم يُقتلون بصمت، بينما ينشغل العالم بتجنيب نفسه قطرات الماء التي تنبعث من تحت الإطارات المسرعة...!!

الحجر الصحفي في زمن الحوثي