المُظفر.. قاهر الأئمة

بلال الطيب
الثلاثاء ، ١٥ نوفمبر ٢٠١٦ الساعة ٠١:٤٧ مساءً
أجاد غالبية الأئمة فن تجميل «التقية»، والتبرير لها، رغم أن مذهبهم «الهادوي» يحرمها، وكقارئ فاحص لماضيهم، تأكد لي ذلك بعد طول تتبع ودراسة، كنت أعتقد أن مقولة «يكذبون كما يتنفسون» حكراً على أحفادهم الجدد، إلا أنها كما تشير المصادر لصيقة بهم منذ مئات السنين، ومن يدري، ربما تكون البند الـ «15» الغير مُعلن من شروط توليهم.
 
 
ثمة أحداث كثيرة تؤكد ذلك، سأكتفي هنا بتناول جانباً من سيرة «المظفر»، السلطان الرسولي الأشهر، وكيف تعامل هؤلاء «السلاليون» مع حزمه ولينه، نقضوا العهود والمواثيق، وعملوا بكل الوسائل على اختطاف الحكم والحلم، وكان عاقبة كذبهم وخداعهم، مزيداً من الذل، مزيداً من الانكماش.
 
أسس «المنصور» عمر بن رسول «الدولة الرسولية» في اليمن «628هـ»، الإمامة الزيدية حينها كانت مُنكمشة بفعل الضربات المُوجعة التي تلقتها من «الأيوبيين»، كان لها إمام يدعى «المُتوكل» أحمد بن عبد الله بن حمزة، تولاها بعد وفاة صنوه محمد «623هـ»، كان كأخيه في غاية الضعف، ولم تتجاوز صفته كزعيم لـ «الحمزات»، صالح «الرسوليين» عام قيامهم، وظل وبعض أقربائه حُكاماً باسمهم على عدة مناطق.
 
في العام «634هـ» نقض «الحمزات» الصلح، استحدثوا حصناً في «المحالب»، واستولوا على «كوكبان»، توجه السلطان «عُمر» إليهم بـ «60,000» مقاتل، أخذ جميع ما كان تحت أيديهم، وجعل عليها نائباً من قبله، اعتذروا له، فأعادهم لما كانوا عليه.
 
عاودت الإمامة الزيدية الظهور بقوة «646هـ»، وذلك بإعلان «المهدي» أحمد بن الحسين «الرسي» من «ثلا» نفسه إماماً، وعمره حينئذ «34» عاماً، كان فقيها أديبا، عالماً بمذهبهم، لا يسكن قلعة، ولا يأوي إلا البراري والجبال، استولى على «20» حصناً، وعزز تواجده في أغلب مناطق شمال الشمال.
 
دارت بينه وبين السلطان «عُمر» عامئذ عدة معارك، معركة «العقاب» بالقرب من «ثلاَّ» كانت الأشهر، خسر فيها حوالي «90» مقاتلاً، وخسر في العام التالي أكثر من «300» مقاتل، بعد محاولة فاشلة لصد احدى الزحوفات السلطانية، لينتهي ذلك العام بمقتل السلطان الرسولي على يد ثلة من غلمانه.
 
خلال الأربع السنوات الأولى من حكم «المظفر» يوسف بن عمر، الذي اتخذ مدينة تعز عاصمة لدولته، تقوى أمر «المهدي»، سيطر على صنعاء ثلاث مرات، وصل في إحداها إلى ذمار، حارب «الرسوليين» وصالحهم، ونقض الصلح معهم أكثر من مرة، وكان لانضمام الأمير الرسولي المُتمرد أسد الدين محمد إليه، أثره البالغ في ترجيح كفته.
«الحمزات» من جهتهم تنكروا للاتفاقات المبرمة سلفاً مع «الرسوليين»، تحالفوا مع الإمام الجديد، ثم اختلفوا، ثم تصالحوا، ثم اختلفوا؛ دارت بينهم عدة معارك، خسروا في إحداها أكثر من «380» من أقربائهم وأنصارهم، غير الأسرى، أرتموا بعدها في أحضان «الرسوليين»، وبعودتهم وعودة الأمير أسد الدين رجحت كفة «المظفر»، استعاد صنعاء «651هـ»، واقتحم صعدة في العام التالي، وحصر «المهدي» وأنصاره في «علاف».
 
توجه «الحمزات» بوفد كبير «652هـ» لمقابلة «المظفر»، قدموا الشكر، وأكدوا الطاعة، وطلبوا المدد، وقد لخص «المتوكل» ذلك المشهد بقوله:
ولما قصدت الملك ذا التاج يوسفاً
 
علمت بأن الهم ليس يعود
دعوت فلباني فتى لا مزندٌ
ملولُ ولا واهي اليدين بليد
 
كان الخليفة العباسي «المُستعصم» قد كتب قبل ذلك بثلاث سنوات إلى «المظفر» يطلب منه القضاء على «المهدي»، واعداً إياه بإقطاعه مصر إذا نجح في مُهمته، وبالفعل استطاع «الحمزات» وبدعم «رسولي» كبير أن يقتلوا «المهدي» في الجوف «656هـ»، وقد كان لخذلان علماء الزيدية له، واصدارهم فتوى ببطلان إمامته، عظيم الأثر في هزيمته، وقيل أنه صمد في معركته الأخيرة لوحده، والمفارقة العجيبة أن الخليفة العباسي قتل في ذات اليوم.
أرسل «المتوكل» لـ «المظفر» برأس «المهدي»، ومعه كتاب، «حدد به الخدمة، وشكر لله تعالى النعمة، ثم للمقام السلطاني خلد الله ملكه»، وأنهاها ببيتين من الشعر:
 
وأبلج ذي تاج أشاطت رماحنا
بمعترك بين الفوارس أقتما
هوى بين أيدي الخيل إذ فتكت به
صدور العوالي تنضح المسك والدما
 
لمؤرخي الإمامة غمز ولمز في سيرة «المتوكل» أحمد، بل لم يعده البعض إماماً، والسبب تخليه عن دعوته، ومبايعته لـ «الرسوليين»، وقد كانت وفاته وعدد من اخوته في ذات العام الذي قُتل فيه «المهدي»، ليخلفه أخيه «داؤود» كزعيم لـ «الحمزات»، والأعجب أن تلك النهايات حدثت بالتزامن مع السقوط المُريع لـ «الخلافة العباسية» في بغداد على يد «التتار».
بعد مقتل «المهدي» بـ «3» أيام، أعلن الحسن بن وهاس «الحمزي» نفسه إماماً، وهو من جُملة خاذليه، بايعه البعض، وخذله كثيرون، أسره الأمير الرسولي «أسد الدين» مرتين في حروب سابقة، وأسره للمرة الثالثة «658هـ»، سلمه لحليفه الأمير «داؤود»، ليحبسه الأخير لـ «10» سنوات، وفي ذات العام أيضاً تمكن «المظفر» من فرض سيطرته النهائية على صنعاء، جاعلاً عليها سنجر الشعبي.
 
أعلن يحيى بن محمد السراجي، نفسه إماماً «660هـ»، قدم أبوه قبل عدة سنوات من العراق، وهو من نسل زيد بن الحسن بن علي، هزمه «الرسوليون»، فلجأ إلى «بني فاهم ـ الحيمة»، أمسك به سكانها، وسلموه للأمير «سنجر»، فكحله بعينيه حتى أعماه.
 
في ذات العام أعلن من صعدة «المنصور» الحسن بن بدر الدين «الهادوي» نفسه إماماً، كان قليل الأنصار، نجح «الرسوليون» خلال عهده بدخول صعدة ثلاث مرات، إلا أنهم لم ينجحوا في القضاء عليه، وقد كانت وفاته بـ «رغافة» منطلق دعوته «670هـ».
أعلن حينها ابن أخيه «المهدي» إبراهيم بن تاج الدين نفسه إماماً، كان كثير الأنصار، نقض «الحمزات» عهدهم مع «الرسوليين» وتحالفوا معه، لتدور بين الطرفين عدة معارك، كانت معركة «بيت حنبص» الأشهر «672هـ»، هُزم فيها «الأشراف»، فأنشد الشاعر الرسولي غازي بن المعمار:
 
ولما فتحنا بيت حنبص عنوة
وجدنا بها الأدواح ملأ من الخمر
فإن تكن الأشراف تشرب خفيةً
وتظهر للناس التنسك في الجهر
وتأخذ من خلع العذار نصيبها 
فإني أمير المؤمنين ولا أدري
 
اصطلح الطرفان، نقض «الأشراف» الصلح؛ ودخلوا صنعاء بـ «7,000» مقاتل «674هـ»، بدعوة من «المماليك الأسدية»، الغاضبين لمقتل أحد أقربائهم في جيش «سنجر»، المُنشغل حينها ببعض المهام خارج المدينة، أكمل «الأشراف» مسيرهم صوب ذمار، إلا أن «المظفر» ظفر بإمامهم، وهزمهم شر هزيمة.
أقتيد الإمام الأسير «إبراهيم» صوب مدينة تعز، حُبس في قلعتها الشهيرة، ليتوفى بعد «9» سنوات في دهاليزها، وقد نقل «الخزرجي» عنه شعراً حسناً، يؤكد إحسان «المظفر» له:
 
ثم انتهيت إلى سوح بهِ ملك
يحل بيتاً من العلياء مرتفعاً
فجاد بالعفو والإحسان شيمتهُ
ولم يزل للعلى والجود مصطنعاً
 
أراد «الأشراف» بعد هزيمتهم أن ينصبوا «ابن وهاس» إماماً، إلا أنه رفض؛ وقد عبر أحد الشعراء عن ذلك:
 
وإلى ابن وهاس أتوا من فورهم
مُستنهضين قيامهُ فاستعجلوا
فأَجابهم وإذا تكون عظيمة
ندعى لها أين الإمام الأول
 
«النبي الأعزل مهزوم دائماً»، حكمة «ميكافيلية» استشعرها «المظفر» منذ البداية، عمل جاهداً على بناء جيش قوي، استقدم لأجل تدريبه الخبراء، فكان ذلك الجيش مصدر عظمة الدولة، وأساس هيبتها، وبفضله تمكن من توحيد اليمن للمرة الرابعة في تاريخها، وامتدت دولته من شرقي ظفار حتى المدينة المنورة، وجاب صيتها الآفاق، وحين منع ملك الصين رعاياه المسلمين من الختان، لم يجدوا غير «المظفر» كي يستنجدوا به، وبالفعل راسل ملكهم، ورفع عنهم المحظور.
 
«الأشراف» حينها كانوا في غاية الضعف، استدعوا «المتوكل» المطهر بن يحيى «الهادوي» من حصنه «تنعم»، ونصبوه إماماً، وسرعان ما تخلى «الحمزات» عنه «677هـ» بعد أن تصالحوا مع «الرسوليين»، نقضوا الصلح «680هـ»، وحين عجزت محولات كبيرهم «داؤود» في إعادة تنصيب «ابن وهاس» و«المطهر»، لجأ إلى ابن أخيه ابراهيم بن محمد، وأعلنه من «ثلا» إماما «683هـ»، سيطر على بعض الحصون، إلا أن «الرسوليين» أوقفوا جميع توسعاته.
 
تحالف «الحمزات» مع «المطهر» للمرة الثانية، اقتحموا صعدة «686هـ»، وقتلوا غدراً «80» جندياً رسولياً، وأسروا واليها، كثرت حينها الأراجيف، وكاد «اليمن الأعلى» أن يخرج من أيدي «الرسوليين»، أرسل «المظفر» ولده «عُمر» إليهم، تمكن بسرعة خاطفة من هزيمتهم، حصر «المطهر» في «ينعم»، و«داؤود» في «العنة»، وصالحهم كالعادة في العام التالي. 
نقض «المطهر» الصلح؛ واحتل «جبل اللوز»، توجه إليه المؤيد بن المظفر «691هـ»، قتل عدد كبير من أنصاره، نجا الإمام من الموت بأعجوبة، بعد أن ظهر ضباب كثيف اختفى به، فسمي بـ «المظلل بالغمامة»، تناقل أنصاره تلك الحادثة وعدوها معجزة تؤكد مساندة السماء له؛ ونُقل عنه مُخاطباً الأمير الرسولي:
 
رويدك أن الله قد شاءَ حربكم
وصيرني الرحمن في ملكه حرباً
فما في جبال اللوز عارُ لسدٍ
غدت وأكفاف السحب من دونه دربا
فأجابه «المؤَيد»:
رويدك لا تعجل فما أنت بعلها
سيأتيك فتَّاك يعلمك الضربا
وسائل جبال اللوز عنا وعنكم
فأفضلكم ولى وخلفكم نهبا
فعاملتكم بالصفح إذ هو شيمتي
وما انتم تعفون عن واقع ذنبا
 
طوال فترة حكمه، بادل «المظفر» يوسف إساءات «الأشراف» بالإحسان، وكان دائماً ما يمد يده للصلح، ويسعى لوحدة الصف، رغم طعنهم إياه من الخلف، وحين توفى «694هـ»، قال عنه «المطهر»: «مات التُبع الأكبر، مات من كانت أقلامه تكسر سيوفنا ورماحنا».
الحجر الصحفي في زمن الحوثي