قراءة في كتاب «جنوب اليمن في حكم اليسار- شهادة شخصية»

عبدالباري طاهر
الخميس ، ٢٨ يوليو ٢٠١٦ الساعة ٠٣:٥٩ مساءً

كتيب مهم حصيلة مقابلة ضافية أجرتها الزميلة الناشطة الروائية المناضلة بشرى المقطري.. يضم «الكتاب» بين دفتيه عدة أسئلة تغطي جوانب مهمة من تجربة حكم اليسار: الجبهة القومية ثم التنظيم السياسي : فصائل اليسار الثلاث : الجبهة القومية (حركة القوميين العرب)، وحزب الطليعة الشعبية ذو الجذور البعثية، واتحاد الشعب الديمقراطي( التيار الماركسي).

 

وفي مرحلة لاحقة وتحديدا في أكتوبر 78 تم توحيد التنظيم السياسي بفصائله الثلاث المنوه بها، وحزب الوحدة الشعبية المكون من فصائل اليسار الخمس في الشمال: الحزب الديمقراطي الثوري(حركة القوميين العرب) والطليعة الشعبية الآتي من البعث، وحزب العمل ( التيار الماركسي).

 

شعرت بسعادة غامرة وأنا أتصفح الأسئلة الذكية وإجابات الدكتور فواز الذي عرفته منذ كتاباته في دراسات عربية، وعبر لقاء في ندوة الديمقراطية في عدن، ورحلة شيقة إلى سقطرة أشار إليها في «وعود عدن»، وتعرفت عليه أكثر من خلال الرفيق خالد حريري، ولقاء عابر في باريس مع الزميل الدكتور علي محمد زيد والسفير علي مثنى،وقرأت سيرته الزاهية «الفتى الأحمر».

 

 من خلال تتبعي لكتابات الباحث والأكاديمي فواز، وقراءة جل إصداراته، ومتابعة بعض مداخلاته في القنوات والندوات- أدركت مقدرة الباحث على الخلاص من العصبيات الميتة والمميتة، والمقدرة على فهم روح التطور والتغيير، وفهم الديالكتيك بعيداً عن الدوغماء والإيمانية العمياء والبليدة .

غطت الأسئلة والإجابات أهم جوانب تجربة حكم اليسار في جنوب اليمن سلباً وإيجاباً، وكشفت بل عرت طبيعة الصراعات الكالحة في تجربة الحكم هناك، والمآلات  البائسة بل الفاجعة للتجربة .

الدكتاتور - كعادته دائما - منصف وموضوعي؛ فتعاطفه مع التجربة لم يمنعه من التقييم الموضوعي والصادق للتجربة.

أتفق مع التقويم وهناك بعض الملاحظات على الكتاب لا تقلل بحال من الأهمية والصدق.

لم يقف الكاتب بقدر كافٍ إزاء تأثير الحركة القومية الماركسية (الجبهة الشعبية، والجبهة الديمقراطية، ومنظمة العمل الشيوعي) على التجربة ذات الجذور القومية؛ وبالأخص تنظيرات نايف حواتمه «تجربة الثورة في الجنوب»؛ فنايف حواتمة لاعب رئيس في تغذية الصراعات بين يمين ويسار الجبهة القومية، والتحريض على العنف، وحسم الصراع بالقوة منذ البدء، ومهووس بالفرز الطبقي،  والتصنيفات ذات الطابع الأيديولوجي التي  سادت خطاب اليسار؛ فقد  تعامل يسار الجبهة مع حواتمة كمنظر وأب روحي، وكان لمقولاته أثر السحر على اليسار القومي، ومن ثم خلافات اليسار في المنطقة كلها وبالأخص لبنان .

 

في الجانب الآخر لم تُعطِ الإجابات الاهتمام الكافي للصراع الدولي بين الصين وروسيا رغم الإشارة إلى ذلك، كما أن للصراع في المنطقة العربية أثر بالغ، وقد تجاهله قادة الجنوب كلية بل تعاملوا معه بزراية وعدمية. وحقاً فإن حقبة «البترودولار» لها أثر مدمر على المنطقة العالم وعائدات المغتربين وتوظيفها في الصراع .

 

دان الأستاذ الصراع الدامي داخل اليسار القومي، وكان موضوعياً في تشريح عنف اليسار مع نفسه، ولكن لم يدرس بصورة أعمق الجذور القبائلية لقادة الفدائيين، ولا لضعف مستوى تعليمهم،  ولا لانشدادهم إلى البندقية (حقيقة الله العظمى!) التي أوصلتهم إلى الحكم، ومكنتهم من هزيمة بريطانيا العظمى.

الانتصار الفدائي الخاطف عبر حرب الريف والمدن وتحديداً المحمية عدن قد أغرى القادة الفدائيين الآتي معظمهم من الريف بالتعويل أكثر على النفس، والاعتداد أكثر على السلاح، والاستهانة بالمدينة والمدنيين، وبالمحيط والعوامل الخارجية،  وعدم التقدير للعمل السياسي؛ «فمن فوهة البندقية تنبع السلطة السياسية»، ولهذه المقولة الماوية السائدة حينها جذور في ثقافتنا العربية الإسلامية، وفي موروثنا  الشعري والشعبي ، والأمثلة كاثرة.

 

لا شك أن الصراع داخل التنظيم، وجل الصراعات كانت داخل التنظيم  السياسي، قد بدأت باكراً في التصفية للخصم السياسي (جبهة التحرير)، والبعث، والتيار الديني والناصريين، ولكن ضحايا الصراع في الغالب كان داخل أجنحة الجبهة القومية وفيما بعد التنظيم السياسي ، ثم الحزب الاشتراكي؛ مما يعني أنه صراع عريان على السلطة وحدها، وأن إكليشة «اليمين الرجعي» و«اليسار الانتهازي» زائفة من أساسها، ولا تستر عورة النزوع المحموم للعنف، والاستفراد بالسلطة رغم ترويكاتها الهشة.

 

إلغاء القوى الأخرى المنافسة أو حتى المعارضة قد أسهم في نقل الصراع إلى داخل الجبهة نفسها .

في إجاباته عن سؤال مظاهر الحرب الأهلية ... إلخ لا يميل الدكتور إلى تسمية الحرب الأهلية، ولكنه في سؤال عن الدور البريطاني يؤكد على إصرار بريطانيا على الاحتفاظ بالنفوذ عبر الجيش، ويحيل على الوثائق البريطانية التي لم يطلع عليها.

 

والحقيقة أن الجبهة القومية كانت صاحبة النفوذ الأكبر في الريف وفي القبائل وفي الجيش والشرطة أيضا، ثم إن الصراع بين مصر وبريطانيا  وانحياز مراكز القوى لصالح قادة التحرير ،وفرض الدمج القسري - كلها قد رجحت كفة الجبهة القومية المدعومة من  قبل القوى الشعبية في الشمال والجنوب أيضاً؛ وهو ما سهل انتصارها؛ لأنها تبنت خيار الكفاح المسلح قبل الجميع، ثم ربطت خيار الكفاح المسلح بالوحدة اليمنية، ولم تعر اهتماماً للوعود البريطانية بالاستقلال عكس بعض قادة جبهة التحرير، وللأمر في المحصلة النهائية علاقة بضعف المدينة أمام الريف المدجج بالبداوة والسلاح.

 

فُجِّرَ الكفاح في الريف أولاً (ردفان)، وامتد كالحريق إلى مختلف مناطق الجنوب العربي حينها، ومع اشتداد الكفاح المسلح ،وعجز القوات البريطانية عن حسمه وصل إلى داخل عدن (القاعدة البريطانية) بعد  قناة السويس، وكان قادة الكفاح المسلح متوسطي التعليم والتأهيل، وجلهم آت من الريف .

 

يتحدث الأستاذ عن الإصلاح الزراعي، وأن 10%  الأرض الصالحة للزراعة والمزروع منها 5% فقط ، وهو تقدير واقعي  أو قريب. والواقع أن الجذور الريفية لجل قادة العمل الفدائي في حرب التحرير، وعدم القراءة العلمية والواقعية لهذه القضية قد ساعد في تأجيج الصراع حد العنف . كانت الدراسة الوحيدة هي دراسة الأستاذ المفكر العربي الكبير عبد الله عبد الرزاق باذيب، وهي دراسة تعود إلى  مطلع ستينات القرن الماضي، والدراسة على أهميتها وموضوعيتها تغيب عنها قضية المياه التي أثبتت الأيام أنها «كعب أخيل» في تجربة الإصلاح الزراعي في اليمن كلها .

 

يشير إلى الأيام السبعة المجيدة، وهي مؤشر مهم لانحراف ثورة أكتوبر المجيدة عن مسارها التحرري الوطني الديمقراطي؛ فالقيادة الآتية من الريف ذات الانتماءات القبلية والمعادية للمدنية والمدينة والعمل السياسي قد بسطت نفوذها في عدن، مستهينة بالعمل المدني والسياسي،  فارضة خيارها الوحيد (العنف )الذي لولاه ما ذاب الحديد كرؤية الشاعر القومي الكبير على مهدي الشنواح، وهو المعبر عن الاتجاه القومي اليساري .

وكان الزعيم الوطني اليساري سالم ربيع علي داعم أساس لهذا الاتجاه المقصي للبرجوازية الصغيرة المدنية المتفتحة لصالح فقراء الريف المعزولين عن أي عمل سياسي أو ثقافي أو معرفي والجوعى حد السحق،بل إن المثقف الأبرز عبد الفتاح إسماعيل غير بعيد عن هذه الرؤية – كشهادة الطرابلسي –.

 

توجه بشرى سؤالا ذكيا ومؤرقا هل صدرت بيانات من الأحزاب اليسارية لإدنة اغتيالات سالمين؟

ويكون الرد خجولا ًوموارباً وهروبياً: صدر بيان من اللجنة المركزية لمنظمة العمل الشيوعي تبدي فيه قيادتها الأسف للحل العسكري للنزاعات الحزبية. وسؤال بشرى يتضمن الإجابة بإدانة كل فصائل اليسار اليمني والعربي التي كانت تتماهى مع العنف أو تؤدلجه أو تبرره وتسيغه لأنه ضد المختلف . والسؤال «غير البريء» إدانة لنا  جميعا بشهادة واحد وواحدة من أهلنا .

 

فيما يتعلق بالحزب الطليعي فقد كان هاجس تيار فتاح بل هاجس اليسار كله ؛ فهو قاسم أعظم ومشترك.

كانت رؤية سالم ربيع علي حزب في الجنوب وجبهة في الشمال، وكان اتحاد الشعب الديمقراطي في مطلع أو منتصف السبعينات مع جبهة للشمال والجنوب، وكان الفقيد محمد علي الشهاري خير معبر عن هذا الاتجاه في عديد من مقالاته .

 

كان فتاح وصَفَّ معه بقية أحزاب اليسار ميالاً إلى حزب طليعي ، وإذا كان توحد فصائل اليسار الماركسي قد اتخذ طابع القسر في الجنوب فإن توحد هذه الفصائل في الشمال قد تمت عبر حوار طويل ممتد وديمقراطي أيضاً،  فلم تكن هناك سلطة إجبار مباشرة على التوحد -كما يعرف الجميع- لكن الضغط قد تم عبر وسائل وأساليب خفية؛ فقيادات التيار الأقوى: التنظيم السياسي، والحزب الديمقراطي الثوري و«المقاومين الثوريين»كانت في عدن، وكانت  تفرض خيار التوحد، وتصعد خيار العمل العسكري بالاستناد إلى النظام في الجنوب كلما نشطت منظمات المدن في الشمال : تعز ، صنعاء ، الحديدة ، وتعطي للسلطة في صنعاء مبرر قمع المنظمات؛ فتغرق في السرية والتطرف والهروب إلى عدن أو مناطق القتال .

 

ازدهار الحياة السياسية وازدهار المنظمات في مدن الشمال لا يزعج النظام الشمولي في الجنوب فقط وإنما يزعج أكثر القيادات الشمالية هناك والتي ترى أن الاحتفاظ بمواقعها القيادية مرهون بسيطرتها على المنظمات في الشمال، وهذا يتطلب انغماسها في العمل السري، وبقاء ديمومة حالة الطوارئ في الشمال في ظل المواجهة المستمرة مع النظام القمعي في الشمال، وتقوية كفاح الجبهة الوطنية في الوسطى ، وهذا لا يعني بحال التبرئة أو التقليل من أساليب ومكائد السلطة الرجعية في الشمال وكونها المسئول الأول عن استهداف النظام التقدمي في جنوب الوطن، واستهداف اليسار والتيارات القومية والديمقراطية في الشمال عبر الجيش والأمن المتعدد الأسماء وتيارات الإسلام السياسي.

 

انتقاد الطرابلسي لشمولية النظام التقدمي في الجنوب متواضع وخجول، وهي سمة مشتركة بين التيارات الماركسية في الوطن العربي كله حينها ، وأذكر المشاركة في ندوة «الديمقراطية»بعدن بعد بيان الثلاثين من نوفمبر 89 والتي شارك فيها مفكرون مهمون : عبد الرحمن منيف، ومحمود أمين العالم، وعبد السلام نور الدين، وفواز طرابلسي وجوزيف سماحه، وعصام خفاجي وغيرهم، ونشرت أبحاثها في مجلة النهج عدد( 30) 1990،  وفيها الورقة المقدمة مني تحت عنوان ( تأويل مصطلح الديمقراطية في الفكر العربي المعاصر)، ومن الرأي السائد حينها التعاطي بحذر مع التحولات في الاتحاد السوفيتي ومنظومة الاشتراكية، وكان مطلب  المواجهة والإصلاحات يغطي على مطلب الديمقراطية في معظم الأبحاث والمداخلات مع وجود بعض الاستثناءات.

 

 تحت عنوان في (المسار الوحدوي المبتور) يشير الدكتور إلى مشاركة عمر الجاوي في المفاوضات السياسية إلى جانب راشد محمد ثابت ،وجار الله عمر . والمعروف أن الجاوي قد استبعد نهائياً من كل المشاروات السياسية من حول الوحدة ،رغم أنه أحد مهندسي دستور الوحدة  والأكثر حماسا لها،  بل إنه بكى ليلة إعلان الوحدة ؛ لأنه كان يشعر بالمأزق الناجم عن الوحدة القائمة على التقاسم، وكان مع النظام الفيدرالي؛ فهو أصلا لم يكن في الحزب الاشتراكي، ولا مع الاندماج بالطريقة التي اتبعت، ثم إنه أعلن عن ميلاد  الحزب الوحدوي اليمني قبل إقرار التعددية السياسية والحزبية؛ ليعبر عن رأيه في أولويتها وأسبقيتها على الوحدة، وهو ما تضمنته رؤية حزب العمل عن الوحدة التي نشرت في ملف الوحدة في مجلة (الحكمة)  عدد( 40) يونيو 75.

 

جرى عشية إعلان الوحدة لقاء في صنعاء.. رأس اللقاء سلطان أحمد عمر وحضره قيادات العمل السري في الشمال، وكنت الوحيد الذي رفض الصيغة المتبناة للوحدة. أما فيما يتعلق باجتياح العراق للكويت فلم يكن الحزب مع كل حروب صدام حسين سواء ضد الأكراد أو الشيعة أو حربه مع إيران وضد اجتياح الكويت .

 

اجتياح الكويت بل احتلالها جرى بعد أقل من ثلاثة أشهر من إعلان الوحدة، وكان دور صدام فيها قوياً، ومن هنا كانت معارضة الاشتراكي خافتة وغير مستعدة للتصادم مع اتجاه صالح المؤيد بقوة لصدام ضداً على الكويت .

 

الإشارة إلى ضعف دور الجيش الجنوبي في حرب 94،  فالواقع أن الصراعات بين الشمال والجنوب، وبين الجنوب والجنوب وبالأخص أحداث 13يناير 86 قد مزقت الحزب والجيش والمليشيا ودمرت التجربة .

 

بعد  أحداث 13 يناير كان الخوف من الجيش الآتي من الضالع والمنتصر في مواجهة محافظات أخرى محل ريبة وشك من قبل بعض القادة الجدد الذين فقدوا الثقة بأنفسهم وببعضهم؛ فأثناء نقل أهم الوحدات إلى الشمال ووحدات من الشمال إلى الجنوب جرى أمر محير ومريب؛ فالوحدات الجنوبية في الشمال بقيت مغلقة أمام الشماليين، بينما فتحت الوحدات الشمالية الموجودة في الجنوب وبالأخص في أبين أبوابها أمام الانضمام إليها؛ فلواء العمالقة أصبح قبيل الحرب خمسة ألوية، وتولى حسم المعركة في عدن.. الأمر الأكثر ريبة أن توضع الوحدات الجنوبية في عمران وذمار في مواجهة مع الوحدات العسكرية الشمالية، والأمر له علاقة بشكوك قادة في الاشتراكي في ولاء هذه الوحدات، ثم إصرار بعض قيادات الاشتراكي على رفض التصالح مع علي ناصر وجماعته وهي الطرف الثاني في المعادلة قد لعبت دورا حاسما في الحرب ضد الجنوب في 1994 .

 

يُردد كثيراً أن السؤال الذكي هو الذي يحدد الإجابة.. وجدنا أنفسنا كقراء أمام أسئلة ذكية وأجوبة لا تقل ذكاء ؛ فالأسئلة والأجوبة تغطي أهم جوانب تجربة حكم اليسار في جنوب اليمن، وهي تجربة رائدة ورائعة حققت إنجازات وطنية عظيمة أهمها: طرد الاستعمار البريطاني من الجنوب، وحققت لونا من المساواة بين فئات وشرائح المجتمع - رغم قسوة التطبيق وبداوته-، والأهم فتحها الباب أمام كل الفئات والشرائح بما في ذلك فقراء الريف والفلاحين والأخدام للحصول على مواطنة متساوية. حققت مجانية التطبيب، والتعليم، وقدرا من العدل الاجتماعي، واحترام المال العام، وتجريم النهب والفساد، ووحدت اليمن، وساهمت في صياغة دستور يقر ولأول مرة في التاريخ اليمني التعددية السياسية والحزبية، وحرية الرأي والتعبير (الحريات الصحفية )،  واستقلال العمل النقابي والتنظيم الاجتماعي، واحترام حقوق الإنسان، والتداول السلمي للسلطة.

 

وفي الأخير : هناك معلومات محدودة في الكتاب غير دقيقة، وقضايا بحاجة إلى تناول أوسع وأعمق.

الحجر الصحفي في زمن الحوثي