شارلي والقاعدة

د. محمد لطف الحميري
الاربعاء ، ١٤ يناير ٢٠١٥ الساعة ١٠:٣١ مساءً
شهدت العاصمة الفرنسية باريس "مسيرة الجمهورية" التي وصفت بالتاريخية للاحتفاء بقيم الديمقراطية وحرية التعبير وتنديدا بالهجوم على صحيفة شارلي إيبدو ومتجر يبيع منتجات لليهود وسقوط عدد من القتلى والجرحى، بالإضافة إلى قتل قوات التدخل السريع كل منفذي الهجمات الذين دفنت معهم أسرار وملابسات ودوافع جهات استخبارية إلا ما سكب سكبا! من معلومات عبر وسيلة إعلامية فرنسية قالت إنها اتصلت بالمهاجمين وأنهم قالوا إنهم ينتمون إلى تنظيم القاعدة في اليمن وإلى تنظيم الدولة الإسلامية الذي ينشط في العراق وسوريا، ليبدو المشهد واضحا للرأي العام الغربي بأن الإرهاب الإسلامي استهدف حرية الصحافة والسامية معا، ومثلما انبرى من يقدم اعترافا مجانيا بتنفيذ هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001 لأهداف إعلامية وحشر كل المسلمين في زاوية التطرف والإرهاب، أعلن التنظيم نفسه وهذه المرة من اليمن مسؤوليته عن هجمات باريس بحجة الدفاع عن رسول السلام والإنسانية.
 
وبين الكم الهائل من الإدانات وموجات الغضب والاستنكار لما حدث، فاجأ دومنيك دوفيلبان رئيس الوزراء الفرنسي السابق الجميع بتصريحاته التي خرجت عن عموم الرؤية السياسية والإعلامية الغربية لوصف ما وقع في باريس عندما طالب دول الغرب بالوقوف أمام حقيقة مؤلمة شاركت في صنعها، متهما تلك الدول بإنتاج ما وصفه بالإرهاب الإسلامي.
 
وقال إن تنظيم الدولة الإسلامية طفل مشوه، لكنه متوحش يعبر عن تقلب وغطرسة السياسة الغربية التي كانت سببا في زيادة عدد المقاتلين من بضعة آلاف إلى نحو 30 ألفا جراء تدخلها العسكري في أفغانستان والعراق وليبيا ومالي.
 
دوفيلبان الذي كان شاهدا على فترة مهمة في مسيرة السياسة الفرنسية ومواقفها المتقلبة من قضايا الصراع في الشرق الأوسط أكد أن تنظيم داعش والقاعدة يكشف الإرهاب الحقيقي ويبرئ المسلمين من هذه الأعمال الإجرامية. 
المستفيد، بلا شك، مما سماها تنظيم القاعدة "بغزوة باريس" هم حركات اليمين المتطرف في كل أوروبا والكيان الصهيوني الذي تلقفت وسائل إعلامه الحادثة وأطلقت عليها الكثير من العناوين التي تؤجج الصراع والفتنة، من مثل "11 سبتمبر الفرنسي" و "الاحتلال الإسلامي" و "الفرنسيون يفقدون دولتهم" و "حرب بين البربرية والحضارة".
 
أما بنيامين نتنياهو فقد نزل عليه الخبر بردا وسلاما ليرد على موقف الجمعية الوطنية الفرنسية التي اعترفت بدولة فلسطين والكثير من الدول الأوروبية التي كان لبرلماناتها الموقف نفسه بأن الفلسطينيين مجموعة من الإرهابيين وأن أهداف الإرهاب الإسلامي ليست تسوية الصراع وإيجاد دولتين تعيشان جنبا إلى جنب، بل الهدف الأساسي "للإرهاب الإسلامي" إبادة مجتمعاتنا ودولنا واجتثاث حضارتنا الإنسانية التي تستند إلى الحرية وطالب بهجرة يهود فرنسا إلى الأرض الفلسطينية المحتلة. 
 
أما المتضررون فهم الملايين من المسلمين والجاليات الإسلامية التي ربما تزداد عزلة وتوضع أمام أبنائها الكثير من عوائق التمييز والعنصرية التي تحد من فرص وفوائد الاندماج في تلك المجتمعات.
بغض النظر عن المستفيد والمتضرر من هجمات باريس، فإن صحيفة شارلي إيبدو والقاعدة وأخواتها يمثلون عنوانا للتطرف المقيت وازدراء الأديان والاستهانة بالنفس الإنسانية، وهنا لابد من تسليط الضوء على السياسة التحريرية للمجلة وعلى منطلقات وممارسات تنظيم القاعدة وتفرعاته، ليس من باب المقارنة، بل لتثبيت حقيقة أن التطرف والغلو، إن بالرسوم أو الكلمات أو العنف، ليس مرتبطا بدين، بل هو ظاهرة يتقمصها أشخاص تحكم سلوكهم وتوجهاتهم أهداف ودوافع معينة.. شارلي إيبدو صحيفة صفراء أسبوعية انطلقت من رؤية يسارية جذرية تسخر من كل المعتقدات، ولذلك لم تستطع الصمود في مواجهة نقص القراء وقلة الإعلانات والاشتراكات لتتوقف عن الصدور عام 1982، ثم عادت للصدور عام 1992. 
 
تعمد الصحيفة إلى الإكثار من الرسوم التي تسخر من رموز الدين والسياسة داخل فرنسا وخارجها والاقتصاد في النصوص ولذلك فقد أعادت في 2006 نشر رسوم مسيئة للنبي محمد، صلى الله عليه وسلم، تضامنا مع صحيفة دانماركية كانت قد أثارت غضبا واسعا لدى المسلمين وكان الرئيس الفرنسي جاك شيراك قد وصف آنذاك ما قامت به شارلي إيبدو بأنه استفزاز للمسلمين.
 
أما الجمعيات الإسلامية فلم تحرض أحدا على العنف، بل رفعت دعوى قضائية ضد الصحيفة، إلا أن القضاء الفرنسي أحجم عن إدانتها بحجة دعم حرية التعبير، لكنه لا يقر حرية التعبير في معاداة السامية، ويبدو أن ذلك شجع الصحيفة على المضي في سخريتها من محبوب المليار ونصف المليار مسلم، فكررت نشر الرسوم المسيئة، حيث نشرت في يناير 2013 صورا صادمة عن حياة الرسول الكريم. لذلك وصفت صحيفة الجارديان البريطانية أن ما جرى ناتج عن خطاب الكراهية ضد الدين الإسلامي والذي ساد في فرنسا الحديثة ويتم التلاعب به لأغراض سياسية من قبل اليمينيين واليساريين. 
 
أما تنظيم القاعدة وتفرعاته، فإنه يعتمد على مبدأ الحرب الشاملة التي لا هوادة فيها ضد أعدائه، وبالتالي فإنه يرى جواز اللجوء إلى جميع الوسائل لبلوغ أهدافه ومنها استخدام الأسلحة غير التقليدية وقتل المدنيين بمن فيهم النساء والأطفال وينصب التنظيم نفسه للدفاع عن بيضة الإسلام إلا أن القاعدة حتى الآن لم تثبت للإنسان المسلم أنها الحل وأن لديها إستراتيجية لقضايا وهموم المسلمين دون تبني منهج العنف.. لذلك فإن المسلمين إن لم يقدموا دينهم على أنه دين القوة والتسامح والأخذ بأسباب النهوض الحضاري، فسيظلون يصارعون طواحين الهواء وتوجه معاركهم صحف صفراء عندما تشعر بعزوف قرائها وغربتها في مجتمعاتها، لكن في المقابل على الدول الغربية أن تغير من سياساتها تجاه قضايا العرب والمسلمين وأن تكف عن سياسة الكيل بمكيالين، وإلا فإن هذه الحادثة ربما لن تكون الأخيرة.
الحجر الصحفي في زمن الحوثي