الخميس ، ١٤ أغسطس ٢٠١٤ الساعة ٠٤:٥٦ مساءً
إن الإنسان بطبعه عنصرٌ فاعلٌ في الحياة فهو خليفة الله في أرضه، والخلافة هنا لا رابط لها بهرم السياسة، وإنما المقصود بها حسن استخلاف الإنسان في نفسه وأهله وماله ومجتمعه، بمعنى الاستخلاف السلوكي أو فقه المعاملة؛ ولذلك، جميلٌ أن يتفاعل الإنسان مع قضايا عصره ومجتمعه، وأن يتعايش معها. والأجمل من ذلك، أن يكون صادقاً في تفاعله، وواعياً لتلك القضايا والظواهر الماثلة، حتى يتسنى له فهمها ومناقشتها وتخصيبها، وحتى يكون حسناً في خلافته ومؤثراً يحترمه الآخر ويتجاوب معه. صحيح أن زينة الحياة ومفاتنها تلهو بتماسك الإنسان وسلوكياته، فينتج عنها تحول القناعات وتبدل المواقف وتنوع الآراء والأفكار، وهذا ما يحتم مثول مبدأ النسبية في لحظة تقويم المواقف أو الحكم على آراء الآخر وأفكاره وسلوكياته. إن مظاهر حياة الأمة العربية والإسلامية اليوم، وما تبديه من سلوكيات منحرفة تتنافى مع حقيقة الدين الإسلامي وطبيعة الإنسان وفطرته، تحتم علينا مراجعة فكر هذه الأمة ومبادئها. خاصة وأن إفرازات هذا الفكر توصف بالاستحمار. أي أنها تستند إلى منظور الرؤية الواحدة والفكر الواحد والمذهب الواحد أو الإيديولوجية الواحدة، وتتجاهل قيم التعدد وفضيلة العلم والمعرفة، التي تفتح كثيراً من مدارك الإنسان وتجعله قادراً على تمييز الغث من السمين. وعليه، فإن الأمة العربية والإسلامية لم تصبح رهينة المحن والمصائب لأنها تخلت عن قيمها ومبادئها كما يعتقد بعض المثقفين، وإنما لعدم استيعاب تلك القيم والمبادئ وفهمها على الوجه الصحيح. ومن يراهن على أن الأمة قد تخلت عن قيمها ومبادئها نؤكد لهم أنها موجودة في وعي كثير من الناس، ولكنها قيم ومبادئ مزيفة وخاوية على عروشها، ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب. قيمٌ متطرفة تمكنت من العقول والمشاعر، وتحكمت فيها العصبية، والمصلحة الآنية والمحدودة. وليس انحراف القيم والمبادئ بفعل الحاكم السياسي فحسب، وإنما كذلك بفعل رجل الدين المتطرف والمزيف والمحرف لعقيدة الإسلام السمحة، فرجال الدين أكثر من يعبث بالعقول ويحرص على تدجينها وتلويثها بالفكر المريض والعقيدة المشوهة والخطاب المزيف في سبيل بسط نفوذهم وسلطتهم المقدسة التي يحُرم مساسها أو الاعتراض على أفعالها وإن تعارضت مع الدين والفطرة. إنه (الاستحمار) بعينه، الذي يعني الاستخفاف والبلادة واللامنطق واللاشعور. وهو ما يعني أن الاستحمار له تأثير سلبي في وعي الإنسان، ووجوده يرتبط بالفكر، والفكر ليس نتاجاً سياسياً بحتاً. صحيح قد تسهم السياسة في تلوين الفكر لكن لن تستطيع تسييره إلا في حضرة أصول فكرية ودينية وثقافية تحمله بين الناس. وكلما كان ذلك الفكر أو الدين ناصعاً ومتصالحاً مع منطق الأشياء كانت النتيجة إيجابية، وتكونت على إثره حالة من النباهة والوعي، وإدراك المسائل على حقيقتها. وكلما كان الفكر أو الدين مشوهاً كانت له إيحاءات تنبعث من مواقف وآراء وأفكار يمكن إدراجها تحت ثقافة "الاستحمار". ولعل من الفائدة الإحالة إلى موقف تاريخي تجمع على صحته كتب السير والتاريخ، نستطيع من خلاله معرفة أن مفهوم الاستحمار لا يرتبط بالسياسة بقدر ما يرتبط بالوعي الفكري والسلوكي والإيديولوجي للناس والمجتمع. ذلك الموقف هو قضية التحكيم بين خليفة المسلمين الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وبين الباغي عليه معاوية بن أبي سفيان. حيث رفض الإمام علي (ع) في البداية أن يمثله أبو موسى في قضية التحكيم؛ لما به من لين ورقة وبراءة، لكن كبار قومه من المسلمين رفضوا رأي الإمام وأصروا على تمثيل الأشعري، فكانت النتيجة كارثية وجاء الموقف في سياق استحماري بامتياز بشهادة عمرو ابن العاص. ذلك حينما ذاق أبو موسى مر الخديعة توجه إلى عمرو بن العاص قائلاً: "ما أنت إلا كالكلب إن تحمل عليه يلهث وإن تتركه يلهث"، فأجابه داهية العرب: "وما أنت إلا كالحمار يحمل أسفاراً". فالحمار لا يدرك قيمة ما يحمل من علم ومعرفة، وهكذا الإنسان الذي لا يؤمن بتحليل المواقف والقضايا وإعمال العقل في كل صغيرة وكبيرة قبل أن يشرع في السير. وهكذا تزداد حياة الأمة العربية والإسلامية تشويهاً واستحماراً بفعل ثقافة المجتمع وجهله وعقيدته المزورة، على نحو ينذر بكارثة حقيقية، وما تمارسه الجماعات الدينية الإرهابية من قتل وذبح للأبرياء كحركة داعش في العراق واليمن إلا صورة واحدة من الصور الناتجة عن ذهنية الاستحمار. تلك الذهنية التي سيطرت على كثير من رجال الدين والثقافة والسياسة والمجتمع، وأحدثت خللاً كبيراً في نمط تفكيرهم، وانحرفت بهم عن دين الله القويم، وعن طبيعة الإنسان وفطرته، ونزعت عنهم مشاعر الرحمة والألفة والحب. وفي الأخير أنصح بقراءة كتاب "النباهة والاستحمار" للمفكر الإسلامي الكبير علي شريعتي يرحمه الله، ففيه من المتعة والنباهة والمعرفة والفكر الكثير.
الحجر الصحفي في زمن الحوثي