هل فقد النص الدعوي تأثيره في عالمنا ؟

محمد العصيمي
الأحد ، ٠٩ مارس ٢٠١٤ الساعة ٠٩:٢٨ صباحاً
هذا السؤال مشروع، خاصة في هذه الأيام التي يتوالى فيها تراجع النص الدعوي، أو النص الوعظي، عبر الدول العربية والإسلامية قاطبة. وفي رأيي أن هذا التراجع، المشهود للنص الدعوي، على مستوى النخب والشعوب، يحدث لثلاثة أسباب رئيسية تتكامل أو تتداخل بصورة أو أخرى.
وأول هذه الأسباب وقوع بعض الدعاة، أو بعض نجوم الدعاة، في مصيدة الكيل بمكيالين، مما أفقدهم شيئا فشيئا مصداقيتهم وسلامة نواياهم وأقوالهم عند الناس. ولنأخذ، على سبيل المثال لا الحصر، قول بعض الدعاة وإلحاحهم على نصرة (إخواننا) الذين يتعرضون للحروب والهلاك هنا أو هناك، بينما يمتنعون هم وأبناؤهم عن الذهاب إلى حياض الخطر والموت مؤثرين الحياة الدنيا وزينتها.. أو قول أحدهم بعدم جواز الاختلاط في بلده ثم إذا هو يختلط بعشرات النساء ويضع كتفه بأكتافهن في بلدان أخرى دون حتى أن يحتاط لهذا التصرف الذي يمكن أن يُسقطه من عليائه. أو كدفاع بعضهم المستميت عن زواج البنت الصغيرة حتى إذا وصل الأمر إلى بناته الصغيرات أصبح في هذه المسألة نظر.
 
وهذه وغيرها من الأمثلة تدل على أن ذاتية بعض الدعاة باتت تطغى على نصوصهم المرسلة للناس، حيث أصبحوا يطبّقون على أنفسهم وبيوتهم ما يشتهون ويعطون الناس ما يريدون. أي أن المسألة تطول وتقصر بقدر ما يلقى الداعية، المحسوب على تعدد المكاييل، من حرارة الترحيب والتصفيق لما يقول، بغض النظر عن قناعته هو شخصيا بما يقول، طالما أن ذلك سيبقيه في صدر المنابر والمجالس ومنصات التواصل الاجتماعي.
 
وقد نتجت عن ذلك حالة من الغيرية بين بعض الدعاة إلى درجة أننا أصبحنا نسمع على الملأ إلغاءات وتصنيفات لبعضهم البعض بأسمائهم وصفاتهم، فهذا جامي وهذا سروري وهذا إخواني وهذا جامي ليبرالي وهذا ليبرالي سروري إلى آخره من (المزاحمات) التي أضعفت الحضور والتأثير الدعوي على الناس، الذين لم يعرفوا في سالف الأوقات مثل هذه التوصيفات اللفظية ومثل هذه الترصدات التي يمارسها بعض الدعاة ضد بعضهم. وهو ما أدى بداهة إلى نشوء حالة من الفرز الجماهيري الحاد بين أسماء الدعاة الناشطة على الساحة.
 
هذا الفرز أدى، أيضا، إلى سلب صفات الداعية من أشخاص وإسباغها على أشخاص آخرين، حسب قوة تلاطم نصوص وأفكار الإلغاء بين داعية وآخر أو جماعة دعوية وأخرى تدور في فلك المذهب أو التيار نفسه، حيث تبدو مغانم الدنيا هي الأقوى حضورا وثباتا في حياة بعض الدعاة.
 
وهذا سيدلّنا على السبب الثاني في تراجع تأثير النص الدعوي على الجماهير، وهو الانتماء الحزبي والفئوي الضيق الذي وجد فيه بعض الدعاة ملجأ للاستقواء والتكسب على طريقة (حزمة العصي) التي يستحيل كسرها مجتمعة. وقد نسي هؤلاء أن حزمة العصي التي يستحيل كسرها لا يصعب حرقها. وقد احترقت بالفعل حزم حزبية دينية كثيرة في عصرنا الحديث نتيجة لابتعاد قادتها ورموزها عن الإخلاص للدعوة التي تقوم مبنى ومعنى على توصيل معاني الدين السامية من خلال القول والفعل الصادقين، ومن خلال التطبيق الفعلي لمبدأ القدوة الحسنة، كما هو حال كثير من المشائخ والدعاة الذين تجنبوا مواطن الفتن الدنيوية ومزالق التكسب والمغانم التي وقع فيها كثيرون غيرهم.
 
ولو عدنا بذاكرتنا قليلا إلى ذلك اليوم المشهود الذي سقط فيه حكم جماعة الإخوان لمصر لأدركنا الشرخ العميق الذي حدث للنص الدعوي في أذهان العامة في مصر وفي العالم العربي كله، إذ لم يكن أحد يتخيل أن يُجير هذا النص، حتى عبر منابر صلاة الجمعة، لصالح الأطماع السياسية. تلك الأطماع التي لم تتوان عن توظيف النصوص الدينية، الدعوية والوعظية، لِتُدخل من يؤيد هذه الجماعة في الجنة وتُدخِل من يعارضها في النار.
 
وقد حدث هذا في الوقت الذي كان قادة جماعة الإخوان وأركانها في التنظيم الدولي للجماعة يتآمرون تحت الطاولات، الدولية والإقليمية، على وطنهم وأمتهم. وكانت ذيولهم في بقاع عربية أخرى تتحين الفرص، بدورها، لتنقض على مكتسبات أوطانها ومجتمعاتها المحلية تحت نفس الغطاء التآمري، الدولي والإقليمي، الذي لا يزال بعضهم، رغم ذلك السقوط المدوي، يُعول عليه ويستجديه لإنقاذ رقبة فرصة الحكم والسيطرة التي ضاعت تحت وطأة الموقف الشعبي المصري من جماعة الإخوان وسوء إدارتهم لمؤسسات ومصالح البلاد الداخلية والخارجية.
 
وكانت النتيجة، أية نتيجة وقوع النص الدعوي في الأطماع السياسية وما جلبه ذلك من مهددات خارجية وارتماء في أحضان الأجانب، أن الإنسان (العادي) اكتشف حجم المؤامرة وحجم السراب الذي كان يجري خلفه حين كان هذا النص يُقدم له على أنه الحل الأوحد والأمثل لمشكلاته وفقره وبؤسه وتخلفه. لقد وجد هذا الإنسان العربي (المضحوك عليه) أنه استجار من الرمضاء بالنار، وأن ما قدم له عبر هذا النص الدعوي، الذي روجت له جماعة الإخوان، وغيرها من الجماعات لما يقرب من ثمانين سنة، لم يكن صادقا ولا خالصا كما يفترض، وإنما كان دغدغة لعواطفه حتى إذا أعطى نفسه أو صوته، كما حدث بعد ثورات الشعوب الأخيرة، للجماعة الدعوية، التي ستقوده إلى نعيمي الدنيا والآخرة، لم يلق سوى المزيد من التهميش والإحباط وفقدان الأمل بحياة كريمة ووضع أفضل.
 
أي أن وعود (النص الدعوي) ذهبت أدراج الرياح مع أول تجربة حقيقية على الأرض. وذلك لأن بعض حاملي هذا النص لم يحملوه لوجه الله تعالى وإنما لوجه الدنيا ومغانمها ولمصالحهم الذاتية والحزبية والفئوية. وهنا حدث السبب الثالث من أسباب تراجع تأثير النص الدعوي، عندما وجد الناس، نتيجة انكشاف غطاء هذه الجماعات، أن قادتها أبعد ما يكونون عن هموم حياتهم ومعاناتهم التي يتكبدونها جراء الفقر والجهل والحرمان من الحياة الكريمة الحرة. وبالتالي حدثت عودة سريعة على مستوى الجماهير إلى منابر الدعاة المخلصين لدعوتهم والمتمسكين بأصول وشروط الدعوة، الذين رفضوا من قبل وما زالوا يرفضون لوي عنق النصوص الدينية لتوافق الأهواء السياسية والحزبية. والذين نبهوا الجماعات الدعوية، مثل جماعة الإخوان وغيرها، من أن السير خلف هذه الأهواء سيورط النص الدعوي وينفر الناس منه، مما سيتطلب جهودا مضاعفة لإعادة هذا النص إلى طبيعته وسماحته وفضائله في حياة الناس. وقد كان مع هؤلاء الدعاة المخلصين كل الحق، فمن ينظر لحضور هذا النص في حياة الناس قبل سنوات، لا يمكن أن يتخيل الشكل الذي أصبح عليه بعد أن طال أمد تشويهه وتوظيفه لأغراض لا تمت بصلة إلى الدعوة.
 
 
كاتب سعودي
الحجر الصحفي في زمن الحوثي