سفينة التحوّل من الألم إلى الأمل

د. عبدالله الذيفاني
الاربعاء ، ٢٩ يناير ٢٠١٤ الساعة ٠٣:٠٤ مساءً
أكتب للألم بالألم، وأغادر الأمل بالأمل، وأعيش باحثاً عن نقطة التقاء بين الألم والأمل في زمن تباعدت فيه المسافات، وافترقت الدروب، وغارت في أعماق التيه الأزمنة، وصارت الأحلام مغارة لا منافذ لها ولا مخارج ولا أكنة، وأضحت القلوب سجينة سجان جاثم بفسق ولا يغادر، ولا تقاربه لحظة تفكير بتوبة، وبين تلك المفارقات العجيبة، أسكن أنا بذات لا شراع لها ولا أجنحة. 
أين كل تلك التي حدثتني عنها الأيام، وتلك التي أخبرتني عنها الكتب والأدبيات، وتلك التي غرست فيّ عبر معلمين أخلصوا، ورووا عقلي بقيم وقناعات تعزّزت بالخطاب السياسي المنظم، وعبّرت عنها حركة الجماهير في الشارع والحركة الطلابية في الساحات المختلفة وعمّدت بالدم والدموع، والعرق والعذابات المختلفة؟. 
أين تلك المضامين التي احتفظت بها في عقلي، وأودعتها سويداء قلبي وأغمضت عليها جفوني، وعشتها قناعات ونضالات وتضحيات، على قاعدة الطموح والأمل الثوري في التغيير، وولادة الدولة التي حلمت بها، ورسمتها خيالات المناضلين؟. 
إنها مضامين الحق والعدل والمساواة، والدولة القادرة والضامنة بحياة آمنة ومستقرة للإنسان، وتنمية تحقق الإنماء والإعمار للأرض والإنسان وبما يوفر الرفاه للإنسان، والازدهار للأرض، والتقدم للوطن. 
إنها مضامين الحقوق والحريات، والسيادة، والاستقلال في الإرادة والقرار، مضامين رسمت في النفوس اعتزازاً بالشخصية الوطنية، والانتماء إلى شعب حضاري حفر في ذاكرة الإنسان والأوطان تجربة مدنية قبل أن يدركها فلاسفة ومفكرون في بلدان نكبرها اليوم ونقتفي أثرها دون وعي لاستلهام القيم والمفاهيم المدنية، مضامين وضعت الوحدة قيمة عظيمة، وغاية سامية، وهدفاً نبيلاً، وقوة ونظاماً يحفظ الثروة ويحقق بها تنمية مستدامة. 
مضامين أكدت في فكرنا وممارساتنا، أن انتماء اليمن القومي هو سر عظمة شعبه، ومكنون حيويته، فهو أصل للأمة العربية، وجذرها الذي لم يمت، وعودها الذي يتقوى بحقائقها التاريخية، وثمارها التي تنتج عن تفاعل الجذور بالتربة العربية الخصبة، وتشكّل وحدة في المقومات والآمال والمصير المشترك. 
مضامين، شرحت بشواهد وأدلة، أن أعداء اليمن، هم أعداء الأمة، الذي يتربصون بقرارها وإرادتها وثرواتها، وحقها في السيادة والاستقلال والاستقرار، وأن هؤلاء الأعداء ينبغي أن لا نواليهم ونمكنهم من إرادتنا ومصيرنا، فهم سم زعاف وإن وضعوا أنفسهم في أوعية يملؤها العسل، ومن ثم فالتعامل مع أولئك الأعداء، خيانة، عمالة، تآمر، بيع للوطن، و و...، كثيرة هي الألفاظ والمفردات التي ملأت قاموسنا الوطني والسياسي، ورؤيتنا الثقافية التي تخط مساراتنا وتترجم مرجعياتنا الوطنية والسياسية، فصارت النظرة المؤصلة عمقاً في النفوس، وعقيدة في الوعي، وسلوكاً في الممارسة، إن مد يد للأعداء يتناقض جملة وتفصيلاً مع قيم المواطنة. 
هذه المضامين، وكما أتذكر جعلت من يتعامل مع السفارات الأجنبية الأمريكية والأوروبية شخصية منبوذة، غير مرحب بها في الأوساط السياسية والاجتماعية، وأتذكر أن أحدهم كان يعمل مع الأمريكيين ونحن في المرحلة الإعدادية، عاش عزلة واضحة، فلم نكن نراه إلا وحيداً، ولا يختلط بأحد، ولا يخالطه أحد من جيرانه وأترابه وزملاء دراسته الذين رأوا فيه بائعاً لقيمه، وخادماً وعميلاً لعدو الأمة المركزي. 
هذه المضامين، رسخت في فكرنا وقناعاتنا السياسية والوطنية والقومية، وممارستنا النضالية، إن العدو الصهيوني المغتصب لفلسطين تاريخاً وحضارةً وأرضاً وحقوق، عدو غرس بمؤامرة دولية أبطالها بريطانيا وأمريكا وفرنسا، وأقطاب القوى الطاغية، ولا بد من اقتلاعه من فلسطين العربية الإسلامية بكامل جغرافيتها من الماء إلى الماء. 
هذه المضامين تشكلت في نفوس جيلنا عقيدة لا يمكن التنازل عنها، وهي كانت كذلك في نفوس أجيال من قبلنا، دفعوا ودفعنا معهم تضحيات جساماً، بلغت عند عدد من أبناء جيلنا والأجيال من قبلنا، الجود بالنفس والقبوع في مجاهل السجون، والعيش في منافٍ، وبُعد عن الأهل والأحبة، على اعتبار أن الوطن أغلى، وقيم الانتماء والولاء الوطني والقومي والإنساني قيم تجسد الحرية والكرامة الإنسانية. 
السؤال الذي يفرض نفسه هو: ما الجديد الذي قلب تلك القيم رأساً على عقب، وبما جعلها بالية، وعدوانية، ومتزمتة، وضارة بالوطن، الأرض والإنسان، ومدمرة لسبل الارتقاء وبناء الدولة المدنية؟ دققت في الوقائع، وأمعنت النظر بالمجريات، ووقفت بعمق على تفاصيل الحياة والأوضاع التي تعيشها بلادنا والأمة، فحصت بما امتلكت من معلومات السجل الأمريكي – الأوروبي في فلسطين، العراق، أفغانستان، باكستان، الصومال، وطائراتهم بلا طيار، وبصواريخ تطير فتفجر الرؤوس، وتسلب الناس حياتهم، وتقتل على الأرض الأمن، وتمزق على الواقع النسيج الاجتماعي، وتفعل في اقتصادنا الأفاعيل، الذي يتعرض لتدمير مواطن اقتداره بشكل مباشر، وغير مباشر بأيدٍ يمنية ترى في أفعالها مقاومة للتدخلات الأجنبية، وهي في الواقع تمارس إضراراً بالغاً وبليغاً بحياتنا وثروتنا وأمننا وسلامنا الاجتماعي. 
بمعنى لم أجد في جولاتي القرائية، والفاحصة للواقع ومتغيراته ما يدعو إلى نسف تلك المضامين القيمية التي سكنت القلب والعقل ووجهت السلوك وحددت الاتجاه والمسار، أي إنني لم ألمس ما يجعلني وربما معي آخرون من جيلي وأجيال من قبلي وبعدي، ما أغير به قناعاتي واستبدلها بقناعات تجعل أمريكا الصديق الأكثر أهمية، والكيان الصهيوني، دولة إسرائيل، والحق الفلسطيني قضية قابلة للحوار، وغزو العراق تحريراً، وتدمير سوريا تغييراً نحو الدولة المدنية والتحرر من استبداد الأسد. 
على ذات السياق، لم أقف على حقائق تفيد أن الوحدة قيمة سلبية، تبدد الثروات، والطاقات، وتفسد الأحلام، وتميت المستقبل في حاضر قاتل. وشكلاً لدولة ظالمة، وجغرافيا يطغي بعضها على البعض الآخر، وجذور مشتركة للإنسان المنتمي إلى خصائص وسمات ومقومات معجونة بتاريخ وامتداد حضاري وثقافي واحد ينسق حاضراً ومستقبلاً ويشتت طموحات، ويفترق مع واقع صار مغايراً على نحو مفاجئ وبدون مقدمات، مارسه نفر، وعمم على الإنسان والجغرافيا وصار وجعاً لا يمكن معالجته إلا بالافتراق. 
أفزعتني المجريات التي تجري في مجارٍ تتنكر لمراحل من النضال وتقفز على أنهر الدماء، والجراحات الدامية النازفة التي قدمها الأكرم والأنقى منا على طريق التحرر وإعادة اللحمة وعودة اليمن إلى وحدته والذهاب إلى صيغ لا تقيم وزناً لكل ذلك، وتؤسس لفرقة وخصومة وجغرافيا ممزقة، وقناعات ترفض بعضها، واعتبار ذلك حلولاً موضوعية ومنطقية بصيغ جديدة تؤسس لدولة مدنية حديثة، تحافظ على الوحدة، وتحمي اليمن المستقل النامي الموحد، صاحب السيادة والقرار المستقل. 
كل ذلك، والقوى التي وقفت في طريق الدولة اليمنية، وحالت دون قيامها بلبوسها المحلية، أو بعناوينها الإقليمية، أو بأصولها الدولية، صارت البوصلة والمرجعية. 
إن التحول الذي ينبغي أن نشهده هو ذلك الذي يثبت القيم الحميدة والإيجابية للمواطنة والانتماء والاعتزاز بالوطن، أرضاً وإنساناً، وتاريخاً وحضارة، ودوراً رسالياً قيمياً في ظل يمن واحد موحد، يحشد طاقاته ويوجهها في البناء والتنمية والسلام الاجتماعي، والحياة الكريمة، اعتماداً على الذات الوطنية القومية والإسلامية والدائرة الإنسانية الأبعد بعيداً عن الاستلاب والتبعية، وبندية كاملة واحترام كامل للسيادة والقرار المستقل، والإرادة الشعبية بمجمل معانيها وخياراتها واختياراتها. 
ما أفرزه الحوار الوطني الشامل، وتوافق عليه المتحاورون يشكّل منعطفاً مهماً في التحول من الألم إلى الأمل، بغض النظر عن وجهات النظر التي ظهرت وتظهر في هذه المخرجات، فالسلام، الأمن، والاستقرار، والتنمية المستدامة، والشراكة والمواطنة المتساوية هي الأمل، وبما يجعل المرحلة القادمة مرحلة شراكة حقيقية في الانتقال والتأسيس للدولة المنشودة. 
ومن ثم فإن التحول من الألم إلى الأمل يحتاج إلى سفينة آمنة وربان قيمي عميق وراسخ، وشراع منفتح على التيارات، وغير منفلت ومفتوح في قلبه وجوانبه، لأن في ذلك علامات التيه والانسياق وراء المزيد من الألم. 
الأمل يحتاج إلى قلوب سليمة، وعقول نظيفة، وطموحات واضحة وحقيقية، ودروب محددة سلفاً، في نقط البداية ونقط المنتهى في محطات ترسمها المعلومة، وتوظفها القدرات، وتخطها القرارات السليمة، في عيادة البحث العلمي والمواطنة الملتزمة. 
والله من وراء القصد. 
الحجر الصحفي في زمن الحوثي