عندما يموت رجل بحجم «نيلسون مانديلا»!

عبدالرحمن عبدالخالق
الأحد ، ١٥ ديسمبر ٢٠١٣ الساعة ٠٨:٢٥ مساءً
 
ثمة بشر يعطون للمكان قيمته ويزينونه بالهيبة، ويمنحون الزمن فسحة للتجلي والتعملق..  يحيون قيماً ويجسدون في سلوكهم الشخصي والعام نموذجاً قابلاً للتعميم والاقتفاء. هم استثناء في حياة شعوبهم وشعوب العالم كافة.. من هؤلاء في عصرنا غاندي وعبد الناصر ونهرو ونيلسون مانديلا.د. عبد الرحمن عبد الخالق - 
ثمة بشر يعطون للمكان قيمته ويزينونه بالهيبة، ويمنحون الزمن فسحة للتجلي والتعملق.. يحيون قيماً ويجسدون في سلوكهم الشخصي والعام نموذجاً قابلاً للتعميم والاقتفاء. هم استثناء في حياة شعوبهم وشعوب العالم كافة.. من هؤلاء في عصرنا غاندي وعبد الناصر ونهرو ونيلسون مانديلا.
أقول نيلسون مانديلا الذي غادر دنيانا في 5 ديسمبر، دون أن اترحم عليه، لأن إنساناً مثله ليس بحاجة لترحمي لسببين اثنيين؛ السبب الأول، أنه صنع مجداً لنفسه، يحكمه إيمانه الخاص؛ إيمان منحه السكينة في حياته وسيمنحه السكينة تحت التراب؛ السبب الثاني، حتى لا أقع في (ناقض من نواقض الإسلام) وأصبحُ «مرتدًا» في حالة إصراري على فعل الترحم، حسب أحد الدعاة الذي تساءل بتهكم عن سبب (تمجيد هذا الكافر الهالك!)، خاصة أن (ليس للرجل ما يحمد عليه إلا ما يذكر عنه من تصديه لمقاومة العنصرية في بلاده… مع أنه لم يتفرد بالجهد في هذا السبيل)، ذلك ما قاله أيضاً، وما أظنه إلا عاجزاً عن تقديم نموذجه المعاصر من الوسط العربي والمسلم تحديداً.
نيلسون روليهلاهلا مانديلا، سماه أبوه «روليهلاهلا»، وتعني بلغة القبيلة «المشاغب»، وقاده هذا الاسم إلى تهذيب الشغب وشرعنته، وربطه بالحق والعدل والحرية والمساواة والتسامح، وهي القيم التي التزم بها طوال حياته النضالية/ السياسية، وقاد بها حزبه «حزب المؤتمر الوطني الأفريقي»، وشعبه من أجل الانعتاق من أسوأ أشكال التمييز العنصري.
قضى مانديلا 27 عاماً في السجن، ثمناً للمبادئ والقيم التي آمن بها، سنوات السجن هذه لم تفت من عَضُد مانديلا، لا، ولم تخلق التشوهات في نفسه، كما هو حال التشوهات التي استحكمت في نفوس وعقول حكامنا الذين أدمنوا التحكم في رقاب الناس، بل جعل من السجن لحظات للتأمل في مستقبل شعبه، الساعي لنيل حريته، وبناء مستقبله المزدهر والآمن.
لقد كانت عدالة قضية شعب جنوب أفريقيا، وحكمة مانديلا وبسالته، مثار اهتمام العالم، وتضامنه مع شعب يعاني من أسوأ أشكال التمييز العنصري، ومع أشهر سجين وزعيم في العالم؛ مانديلا.
أفرج عن مانديلا في 11 فبراير 1990م، وأُعلن التوقف عن خيار الكفاح المسلح الذي أجبر «حزب المؤتمر الوطني الأفريقي» على انتهاجه عام 1960م، بسبب سياسة نظام العزل العنصري الأبارتيد، وممارساته القمعية ضد السود؛ السكان الأصليين للبلد، لتبدأ جنوب أفريقيا مرحلة جديدة، مرحلة نال فيها الأفارقة السود، هم الأغلبية، حقهم في العيش الكريم، والمواطنة المتساوية، والمشاركة بالسلطة والثروة، مثلهم مثل المستوطنين البيض. 
وكان للمناضل والسجين مانديلا، أن يعتلي سدة الحكم في مايو 1994م، بانتخابات حرة ونزيهة، مشمولاً بحب شعبه، ليكون أول رئيس أسود لجنوب إفريقيا، ليستمر في رئاسة الدولة إلى يونيو 1999م، ولدورة واحدة. ورغم شعبية مانديلا الكبيرة، التي تؤهله للاستمرار في الحكم، إلا أنه اختار أن يساهم في وضع اللبنة الأولى في البناء الديمقراطي في بلاده.
كان ينتظر جنوب أفريقيا بعد انتهاء نظام الفصل العنصري، مجازر ودماء، نتيجة تراكم سنوات من التنافر والكراهية بين السود والبيض، وهنا كان لشحنة القيم؛ قيم التسامح والمحبة ونبذ العنف، التي أمن بها مانديلا، أن تتجلى وأن تتسيد الموقف، وتفرض منطقها، فالتف الشعب خلف قائده لدفن ما تراكم من أحقاد وضغائن، لتبدأ مرحلة جديدة عنوانها الإخاء والشراكة في بناء جنوب أفريقيا مستقرة وقوية.
قالت يوليا تيموشينكو رئيسة وزراء أوكرانيا السابقة عن مانديلا، من وحي تأملاتها كسجينة: (نجح مانديلا في إرشاد جنوب أفريقيا إلى الحرية لأنه كان قادرًا على رؤية مستقبلها بشكل أكثر وضوحًا من أولئك الذين عاشوا سنوات الفصل العنصري خارج أسوار السجون، والحق أنه كان يمتلك ذلك الوضوح النادر للرؤية الأخلاقية التي قد يغذيها وجود المرء في السجن).
أين نحن من هذه اللغة.. من هذا السلوك غاية في الرقي والتسامي؟.. 
لغة التسامح، لغة نبذ العنف، لغة الأمن الاجتماعي، القبول بالآخر... 
أين نحن من لنا الإنسان مانديلا (الكافر)؟..
الحجر الصحفي في زمن الحوثي