ما لم تُصِرّ إسرائيل على تحويلها إلى حرب وجود، فإن المواجهة المشتعلة اليوم بينها وبين إيران لا تبدو في جوهرها صراعًا وجوديًا خالصًا، بل أشبه بـ"عملية جراحية دقيقة" تُجرى في عمق النظام الإيراني، بأدوات خارجية وبأيدٍ داخلية تتهيأ للحظة حسم تاريخية. فهل تكون هذه الحرب بوابةً لإعادة توزيع مراكز النفوذ داخل إيران، وتمهيدًا لتوقيع صفقة كبرى مع الغرب؟
منذ قيام الجمهورية الإسلامية عام 1979، ظل النظام الإيراني قائمًا على توازن معقد بين جناحين: جناح متشدد محافظ يمثله الحرس الثوري والمؤسسة العقائدية ذات النزعة الثورية، وجناح إصلاحي - تكنوقراطي يسعى إلى الانفتاح الخارجي وتخفيف القيود الأيديولوجية، دون المساس بجوهر النظام. ومع اشتداد العقوبات، واحتجاجات الشارع، وتفاقم التحديات الاقتصادية، بات هذا التوازن هشًا، وبحاجة إلى صدمة كبرى لإعادة ضبطه. من هنا، تبدو هذه الحرب كأنها صراع وظيفي بغطاء عسكري، هدفه ليس فقط تفكيك بنية القوة الإقليمية لإيران، بل إعادة تشكيل مراكز القرار داخلها.
في هذا السياق، يمكن فهم تريّث ترامب في قرار التدخل العسكري المباشر، لا كعلامة تردد، بل كتكتيك محسوب، يُراهن فيه على أن تؤدي الضربات الإسرائيلية المركزة إلى إنهاك الجناح المتشدد، ودفع النظام نحو إعادة التموقع داخليًا. فترامب لا يريد أن يمنح نتنياهو نصرًا مجانيًا، ولا أن يتورط في حرب قد تشعل جبهات متعددة من العراق إلى اليمن. لكنه في المقابل، يُراقب عن كثب تفاعلات الداخل الإيراني، بانتظار لحظة مناسبة لتوقيع صفقة كبرى، إن ظهرت قيادة أكثر براغماتية من قلب النظام.
حين تتقاطع الاغتيالات مع الصفقات الكبرى، يصعب قراءة سقوط هذا العدد اللافت من القيادات العسكرية والعلماء النوويين الإيرانيين، دون أن تُطرح تساؤلات عن حقيقة مستوى الحماية المفترض، أو حتى عن احتمال وجود تواطؤ خفي داخل بعض دوائر السلطة. فالتراخي – أو التغاضي – عن هذه الاغتيالات لا يبدو معزولًا عن صراع التيارات داخل النظام، حيث قد يغض الجناح البراغماتي الطرف عن تصفية رموز الحرس الثوري المتشدد، باعتبار ذلك تمهيدًا لإزاحة المعطّلين لأي صفقة محتملة مع الغرب.
لقد بدا أن بعض هذه الاغتيالات قد لا تكون فقط ضربات من الخارج، بل أيضًا رسائل داخلية تمهّد لإعادة توزيع النفوذ، وتحييد قوى المواجهة، وتهيئة المشهد لمرحلة ما بعد الحرب.
ولفهم هذه اللحظة الدقيقة، من المفيد استعادة الدور الوظيفي الذي لعبته إيران في سياقات متعاقبة: قبل سقوط الشاه، كانت إيران شرطي الخليج، حليفًا لواشنطن، وحاجزًا أمام المد القومي والثوري العربي. وبعد الثورة الإسلامية، تحولت إلى خصم معلن ظاهريا للغرب، لكنها مارست في آنٍ واحد وظيفة الضبط والسيطرة على الفوضى المتنقلة، بدءًا من الحرب مع العراق، مرورًا بإعادة التموضع بعد التسعينات. ثم جاءت لحظة الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، لتمنح إيران فرصة ذهبية لملء الفراغ الأمريكي، عبر شبكة من الوكلاء الطائفيين، في مشروع يبدو على السطح معاديًا لأمريكا، لكنه في نتائجه خدم استراتيجية "الفوضى الخلاقة" التي أرادتها واشنطن: تفكيك الدولة الوطنية، وتسييل المجتمعات، وتحويل الشرق الأوسط إلى فضاء هشّ بلا مركز سيادي.
من هنا، يمكن القول إن إيران وأمريكا، رغم عدائهما العلني، كانتا شريكتين في النتائج. خصمان في الخطاب، لكن متكاملان في الدور: واشنطن تهدم من الأعلى، وطهران تُفكك من الداخل. وكلتاهما أسهمت، كلٌ بطريقته، في إنتاج شرق أوسط مفكك، تديره وحدات وظيفية، لا دول ذات سيادة. وهكذا، حين تتقاطع شعارات الممانعة مع خرائط التفكيك، تسقط الأوهام، وتظهر الحقيقة.
في ضوء ما سبق، فإن مستقبل إيران يتوقف على ما إذا كان التيار البراغماتي قادرًا على التقاط لحظة الحرب لتحويل مسار النظام، أو على الأقل لخفض قبضة الحرس الثوري. فإن نجح، ستكون إيران مؤهلة للعب دور جديد: الانخراط في النظام الدولي لا التمرد عليه، والتخلي عن الأذرع العسكرية الخارجية، ولعب دور موزون إلى جانب إسرائيل في هندسة توازنات المنطقة، بدلًا من تقويضها. وهكذا، قد لا تكون الحرب الدائرة اليوم سوى عتبة لإعادة إنتاج الجمهورية الإيرانية، لا على أنقاضها، بل من داخلها.
ويبقى السؤال الأعمق: هل يُكتب سيناريو المستقبل الإيراني من الداخل؟ أم يُملى عليه من الخارج؟ أم أن ما يجري هو تواطؤ صامت بين الطرفين؟
ثم، في ظل هذا الاحتشاد الإقليمي لإعادة رسم خرائط النفوذ، وتبادل الأدوار الوظيفية بين خصوم الأمس وشركاء الغد، يطفو سؤال لا يجوز أن يُهمَل:
ماذا عن العرب؟
هل أُريد لهم أن يكونوا شركاء في ترتيبات ما بعد الحرب، أم مجرد فائض جغرافي وتاريخي تُعاد هندسته وفق خرائط الآخرين؟
وهل بقي في الوعي الجمعي بقية من حلم، أو نواة من مشروع، قادرة على مقاومة هذا التشظي الممنهج، أم أن العرب، مرة أخرى، سيُستخدمون كورقة على طاولة لا مقاعد لهم فيها؟
-->