حين يتحوّل الإنسان إلى ظلِّ فريقه.. عن لعنة الاصطفافات أتحدث.!

فائد دحان
الثلاثاء ، ١٧ يونيو ٢٠٢٥ الساعة ٠٥:٠٣ مساءً

ظل لعنة الاصطفافات أسوأ ما يهدد الحياد، وأفدح ما يغتال إنسانية الإنسان، فمنذُ أن عرف البشر معنى الجماعة، باتت فكرة الاصطفاف ملاذاً للضعفاء، وحصناً للمتحذلقين، ومحرقةً للعقلاء. لعنةٌ تسلبك حقك في أن تكون فرداً مكتمل الوعي، وتدفعك مرغَماً لتكون مجرد امتدادٍ لصوتٍ أعلى، أو ظلٍّ لفريق.

 

هذا ما أدركته مبكراً، حين قررت أن أعمل بعيداً عن تأثير أولئك الأسرى في أقفاص أيديولوجياتهم الضيقة؛ يمينيين يتغنون بماضٍ ميت، يساريين يتوهمون ثورةً لم تولد يوماً، وقوميين يبيعون عروبةً ورقية في سوق الشعارات.

 

 يجمعهم جميعاً هوسهم المرضي بأن من يخالفهم ليس إلا شيطاناً رجيماً، يجب مطاردته في كل ساحة؛ في الواقع، في الفضاء الافتراضي، في الحلقات المغلقة، وحتى في خيالك الخاص، متأهبين أن يلتهمك الذئب كونك غنمةً قاصية.

 

هم أبناء الاصطفاف، لو مُنحوا القدرة، لضيقوا أمامك سعة الكون، ولوقفوا في وجه مشيئة الله ذاتها قائلين.. كوني كما نشاء. لا يتعايشون مع فكرة أن العالم أوسع من مقاس عقولهم، وأن الاختلاف جوهر الحياة لا عارها. الاصطفاف عندهم ليس موقفاً فكرياً، بل دينٌ موازٍ، لا يُغفر فيه لمرتد، ولا يُرحم فيه من خالف.

 

والطريف أن هؤلاء، وسط معاركهم العبثية، يتناسون أن كل قضية تختنق حين تُحشر في خنادق الاصطفافات.. فالحقيقة لا تسكن ضفة واحدة، ولا تختبئ خلف راية فريق. بل الحقيقة كعادتها تسبح حرةً في المنتصف، حيث لا يُسمح لك بالوقوف. لأن الحياد عندهم خيانة، والإنصاف جريمة، والإنسان الحر خصمٌ لا يُؤمَن جانبه.

 

والأكثر عبثية، أن هؤلاء لو اختلفت معهم في رأيٍ تافه، شنّوا عليك حربهم كأنك أسقطت عنهم شرف الانتماء، أو مزقت كتابهم المقدس.. يريدونك أن تهتف معهم، تصفق معهم، تلعن مع خصومهم، وإلا فمكانك خارج هذا العالم.

 

لهذا أقولها بيقين.. إن أخطر ما يهدد الحياد والحياة والإنسانية ليس الحرب ولا القمع وحدهما، بل لعنة الاصطفافات.. لأنها تحوّل العقل إلى بندقيةٍ صدئة، والفكرة إلى قيد، والإنسان إلى كائنٍ مجوفٍ، يردد ما يُقال له، ويخشى أن يرى أبعد من أصبعه.

 

وحين تنجو من هذا الفخ، حين تعود إلى المسافة النزيهة بينك وبين كل ما يجري، تكتشف كم كنت قريباً من أن تتحول إلى ترسٍ في آلة غبية.. وتدرك متأخراً ربما أن الإنسان الأصيل لم يُخلق ليلتحق بقطيع، ولا ليحمل رايةً لم يختَرها.

 

فالحياد موقف شجاع في زمن الجنون.. وممارسته لا تعني الوقوف بلا موقف، بل تعني رفض التماهي الأعمى مع القطيع، والاحتفاظ بحقك في التفكير الحر، ولو دفعت ثمن ذلك وحدك.

 

لهذا، كلما أفلتُّ من فخ الاصطفاف، ازددت يقيناً أن أعظم ما يمكن أن يفعله الإنسان لنفسه هو أن يحتفظ بحريته الداخلية؛ تلك التي لا يملكها حزب، ولا يحتكرها تيار، ولا تُعلّق في رقبة زعيم.. لأن الحياد النبيل لا يعني الوقوف في المنتصف، بل يعني أن تختار ضميرك، لا قطيعك.. أن ترى العالم بعينك لا بعين الجماعة، وأن تعرف أن مشيئة الله أوسع من مقاس خيالهم الضيق.

 

ولأجل هذا.. لن أكون ترساً في آلة غبية، ولا بندقيةً في يد فكرة متعفنة، ولا ظلًا لفريقٍ لا يرى في الوجود غير نفسه.. سأبقى في تلك المسافة الوعرة، حيث يكرهك الجميع، لكنها الوحيدة التي تحفظ لك إنسانيتك.. فلتذهب اصطفافاتهم للجحيم، ولتبقَ الحرية أوسع من حناجرهم المختنقة.

 

ففي النهاية، يتنازع القطيع راياته، ويطلق أنبياء الاصطفاف لعناتهم، وينسى الجميع أن الكون لم يُخلق على مقاس حزب، ولا الفكرة تموت حين يخالفك أحد، ولا تصير مشيئة الله أداةً في يد لجان الاصطفاف.. وحده الأحمق من يظن أن الحقيقة تُختصر في هتاف، أو أن الشرف يقاس بعدد الشتائم التي تقذفها مع القطيع.

 

لهذا... سأظل أؤمن أن الإنسان الأصيل لم يُخلق ليلتحق بقطيع، ولا ليحمل رايةً لم يخترها، ولا ليهتف باسم من يجهل اسمه.. وذاك والله هو الموقف الذي يستحق أن يُعاش ويموت عليه.

 

دونت هذا بعدما أدركت تماماً أنه لا ثمة أمل يرجى من رفاق الاصطفافات الضيقة ،خاصة وانني لاحظت مؤخراً حتى هنا في فضاء الواقع الافتراضي، قرروا قطع العلاقة الافتراضية والغاء الصداقة التي تبقت بعد هذا الشتات الذي اصابنا، وبسبب اختلاف بسيط فضلوا أن نعيش في جزر منفصلة بدلاً من تلقي النقد بصدر رحب.

-->
الحجر الصحفي في زمن الحوثي