في موسمٍ لا يُقاس بالأيام فحسب، بل بما يُبذل فيه من عطاء، جاء حج اليمنيين هذا العام ليحمل وجهًا آخر للعبادة: وجهًا ترسمه سواعد التنظيم، وتكتبه تفاصيل الرعاية، ويعلو فيه صوت المسؤولية فوق الضجيج.
لم يكن حج اليمنيين هذا العام مجرد موسم عبادة، بل موسمًا من التنظيم المنضبط والجهود الاستثنائية التي تستحق التوقف عندها. فمنذ انطلاق ترتيبات التفويج وحتى إتمام المناسك، لاحت ملامح عمل احترافي تقوده وزارة الأوقاف والإرشاد اليمنية ممثلة بالوزير الدكتور محمد عيضة شبيبة، الذي تحرك كقائد ميداني، متابعاً التفاصيل، وواقفاً على احتياجات الحجاج بعينٍ يقظة لا تنام، وضميرٍ لا يسمح بالإهمال أو التهاون.
كمتابع ومهتم بكل ما يُنجز في موسم الحج كونه موسم عبادة عالمي يتابعه الناس من كل أقطار الأرض، لفت انتباهي ما تم تداوله في بعض مواقع التواصل الاجتماعي من شكاوى تتحدث عن تقصير في الخدمات، ومقاطع واتهامات، بعضها عاطفي وبعضها مغلوط، وقد حملت في طياتها تساؤلات مشروعة وأخرى مفتعلة. غير أنني بالأمس فقط وجدتُ البرهان، وظهرت الحقائق بعد أن تكشفت الوقائع، وبان زيف الكثير مما نُشر، حين تبين أن بعض المقاطع المتداولة في إحدى القنوات تعود إلى مواسم سابقة ولا تمت لموسم هذا العام بصلة.
ما زاد من تقديري للموقف هو ما دوّنه الوزير شبيبة بنفسه، بلغة شفافة ومسؤولة، حين قال: "كل شكوى أقف عندها وأنظر فيها، ولا يهمني نية الشاكي بقدر ما يهمني صدق الشكوى ومعالجة آثار الخطأ." ومن هنا، بدا واضحًا أن الوزارة لا تهرب من النقد، لكنها ترفض الانجرار وراء ضغطٍ إعلامي لا يستند إلى البينة، وترفض أن تحكم على موظف أو وكالة استنادًا إلى "قالوا" فقط.
وفي معرض توضيحه، كشف الوزير عن حالات شكاوى اتضح عدم دقتها، مثل الحاج الذي ادّعى أنه تُرك دون طعام، بينما تبين أنه وصل مبكرًا قبل أيام الإعاشة، ورغم ذلك قدمت له الوكالة الوجبات على نفقتها. وفي حالة أخرى، ظن أحد الحجاج أنه تُرك في مزدلفة، بينما الحقيقة أنه بات ليلته فيها وتم نقله لاحقًا بالباص إلى سكنه، لكن الالتباس نجم عن سوء فهم لطبيعة الإجراءات المرورية في المشاعر.
الوزير لم يُنكر وجود الأخطاء - وهذا طبيعي في أي عمل بشري - بل أكد أن المعالجة الفورية والمساءلة الحازمة هي ما تضمن تصويب الخلل واستقامة العمل. لكنه في الوقت ذاته أشار إلى أن بعض الشكاوى تنشأ من الجهل أو التسرع وبعضها من التضخيم الإعلامي وهذه بحد ذاتها مشكلة أخلاق ووعي مهني في مفهوم السبق الإعلامي عبر نقل أخبار مغلوطة أو قديمة، بأسلوب يفتقر إلى التثبت والمهنية، الأمر الذي قد يفقد الجهة الناقلة مصداقيتها ومهنيتها، ويضعها في موضع مساءلة مهنية وأخلاقية إن لم تسارع للتصحيح والاعتذار. أما إن كان ذلك مقصودًا، فثمة مآرب وأهداف تتجاوز الإعلام إلى دوافع أخرى لا تخدم الحقيقة ولا تحترم حرمة الزمان ولا مكانة الحج، وهذا يثير الاستغراب والتساؤل لماذا يسعى البعض أفراد أو وسائل إعلامية، عن وعي أو دون وعي، لتصدير صورة سلبية تخدم أغراضاً غير مهنية؟ وهل الإنصاف بات نادراً إلى هذا الحد، بحيث يتم تعميم الخطأ وتغييب المنجزات؟!
في المقابل، وفي وجه الحقيقة الذي لايمكن حجبه، لا يمكن لأي عاقل ومنصف تجاهل الجهود الجبارة التي بُذلت هذا العام، سواء من الأشقاء في المملكة العربية السعودية، الذين وفروا بيئة تنظيمية عالية المستوى وكذلك من جانب وزارة الأوقاف والإرشاد واللجان الميدانية اليمنية وقد انعكست تلك الجهود في رضا الحجاج، وشهاداتهم الصادقة، والتي بدت كأبلغ رد على كل محاولات التشويه.
لا يطالب القائمون على خدمة الحجاج بمديح من أحد، لكن عندما تقاس الجهود بعدل البصيرة لا صخب العاطفة يتجلى استحقاقهم للإنصاف، وللتقدير الواعي لمحدودية الجهد البشري وعرضته للخطأ، وما بين المبالغة في النقد والتغاضي عن الحقائق، يبقى صوت المسؤولية هو البوصلة، وتبقى الشفافية الصادقة، كتلك التي أظهرها الدكتور محمد شبيبة، هي المعيار الحقيقي في زمن باتت فيه المقاطع أسرع من الحقائق، وأكثر انتشارًا من صوت الإنصاف.
-->