ما بين البشارة والبيان: قراءة موضوعية في خطاب الرئيس عشية الوحدة

د. علي العسلي
الخميس ، ٢٢ مايو ٢٠٢٥ الساعة ٠٦:٤٥ مساءً

 

في لحظة فارقة، جاء خطاب رئيس مجلس القيادة الرئاسي مختلفًا عن الخطب المعتادة، إذ اتسم بالوضوح والاعتراف، وحمل في طياته رؤى جديدة قد تؤسس لمرحلة مختلفة. لم يكن الخطاب مجرد مناسبة احتفائية، بل محاولة لتوجيه رسائل ضمنية وصريحة حول قضايا محورية كالوحدة، والإصلاح، وتمكين المرأة، ومآلات المواجهة مع الحوثي. هذا المقال يفتح نافذة تحليلية لفهم ما بين السطور، ويطرح تساؤلات عن مدى جدية الانتقال من الأقوال إلى الأفعال، ومن التمنيات إلى المشاريع. فهل نحن أمام بيان عابر أم انطلاقة حقيقية نحو التغيير؟

في مساء الثاني والعشرين من مايو، وفي مناسبة وطنية بالغة الرمزية، ألقى رئيس مجلس القيادة الرئاسي خطابًا يمكن وصفه بالمختلف عن سابقاته، لما حمله من نبرة جديدة، واعترافات غير مألوفة، وإشارات توحي بإدراك أعمق لتعقيدات الواقع اليمني. وكما جرت العادة، لا يكفي أن نستمع للخطاب بروح احتفالية، بل ينبغي تفكيكه قراءةً ونقدًا، تقديرًا وتنبيهًا، حتى لا تظل الخطابات محكومة بحالة التلقي السلبي أو الانبهار الوقتي.

المرأة اليمنية... من الصوت إلى الاعتراف

افتتح الرئيس خطابه بتحية – لم يألفها من قبل – للنساء اليمنيات، في إشارة سياسية رمزية عميقة لم تخلُ من رسائل ذكية. لكنّ أهمية هذه الإشارة لا تكتمل إلا حين تُترجم إلى سياسات واضحة تُقر بالدور، وتُنهي التهميش، وتُؤسس لتمكين حقيقي للمرأة في مواقع اتخاذ القرار. فصوت المرأة الذي ارتفع في ميادين عدن، ينبغي ألا يُختزل في تحية، بل يُترجم إلى خطة.

الوحدة والانفصال... بين التذكير والتبرير

كانت الإشارات المتعددة إلى "الروح الوحدوية الجنوبية" لافتة في الخطاب، إذ بدت محاولة لتفنيد دعوات الانفصال بالروح الوحدوية نشأة وفكرة وراية ومبادرة تسجل كأيقونة للجنوبيين، لا بالقوة أو التجاهل. غير أن التفسير الذي أشار إلى تغير "مزاج الجنوبيين" بسبب الضغوط، يحتاج إلى مراجعة أدق؛ فالمزاج الشعبي لا يتغير عرضيًا، بل يُعاد تشكيله عندما تتراكم المظالم. ولذا، فإن مواجهة دعوات الانفصال لا تكون بالتفهم أو التبرير أو حتى بالتقريع، بل بتقديم بديل اتحادي عادل، قابل للتطبيق، ويُعيد الثقة في الوحدة كقيمة بذاتها ومصلحة شعبية.

عدن... العاصمة المؤقتة تحت المجهر

عدن، التي وُصفت بأنها "منصة الانطلاق نحو استعادة الدولة"، تعاني عمليًا من اختلالات تجعلها أقرب إلى ساحة تنازع سلطات. فالتحديات الأمنية، وتعدد القوى المسلحة، وغياب مؤسسات الدولة الدستورية وهيئة الأركان للجيش الوطني، تجعل هذا الوصف طموحًا أكثر منه واقعًا. والرهان على عدن يجب أن يبدأ بإعادة بنائها كمركز سيادي فعلي، لا مجرد عنوان دون ممارسة.

بين التسويات الشكلية ووعود التصحيح

يُشكر للرئيس جرأته في الاعتراف بعدم جدوى "التسويات الشكلية"، وتأكيده على ضرورة حلول حقيقية ومنصفة. غير أن ذلك يفتح تساؤلات عن التوقيت والآلية: فهل من الحكمة طرح قضايا كبرى – كتمكين أبناء الجنوب من صياغة مستقبلهم وتقرير مركزهم السياسي والاقتصادي والثقافي – قبل استعادة الدولة وبناء توافق شامل لكل اليمن، وليس فقط للجنوب، بل من الضروري أن يشمل باقي الاتجاهات أو المناطق؟ الإصلاح لا يبدأ من الهامش، بل من المركز؛ من استعادة الدولة أولًا.

رؤية اليمن الحديث... التأسيس عبر الركائز الثلاث

طرح الرئيس رؤية ثلاثية ليمن جديد وحديث: حماية النظام الجمهوري، ترسيخ التعددية، وبناء وحدة متكافئة. وهي رؤية في ظاهرها متقدمة، لكن نجاحها مرهون بالإرادة السياسية، والانتقال من التصريحات إلى التشريعات، ومن المبادرات الفردية إلى البناء المؤسسي. لا معنى لأي ركيزة ما لم تُصن بالدستور أو بقوانين فاعلة، وعدالة نزيهة، وقيادة مستقلة عن النفوذ المسلح أو حتى عن الخارج.

الإصلاح المؤسسي... خطوة جريئة في طريق طويل

من الإيجابيات المهمة في الخطاب الإعلان عن خطوات إصلاحية تشمل تعزيز استقلال السلطات، وتفعيل أجهزة إنفاذ القانون، ومعالجة بعض آثار حرب صيف 1994، وتوسيع اللامركزية المالية والإدارية. لكن هذا الطموح يتطلب خارطة طريق واقعية، وإرادة تنفيذية تُطمئن الناس أن الإصلاح ليس مؤجّلًا كما اعتادوا، بل واقعًا يتحقق تدرجًا وبمؤشرات قياس واضحة، كما أورد الرئيس من أرقام في القضاء وفي دفع رواتب المسرحين الجنوبيين.

هل هذه الحزمة كافية لتصحيح المسار وتغيير المزاج؟

نحن فعلاً مع الإجراءات الملموسة، نحن مع الحكمة التي ينتهجها الرئيس، لكن ليس مع ما ورد في خطابه بالخيارات المفتوحة، نتحفّظ على ذلك.

توصيف الحوثي... هل يكفي؟

وصف الرئيس للحوثي بأنه "جذر الأزمة" كان دقيقًا وصريحًا، لكنه يبقى توصيفًا ما لم يعقبه فعل وطني موحد. المطلوب اليوم اصطفاف واسع، لا شعار مقاومة؛ المطلوب مشروع جمهوري جامع، لا فقط سردية مضادة. وإلا فإن توصيف الحوثي سيظل مجرد تسمية دون نتائج.

وحدة القيادة... هل نضجت التجربة؟

تأكيد الرئيس على أنه هو وإخوانه أعضاء مجلس القيادة الرئاسي قد عملوا خلال السنوات الماضية على استلهام روح الوحدة الوطنية وتحويلها إلى واقع عملي من خلال تعزيز التوافق ودعم الشراكة وتمكين الحكم المحلي والتشديد على مركزية القضية الجنوبية، تلك خطوة مهمة، لكن الواقع مختلف، يحتاج ما اتفقتم عليه أن ينعكس واقعًا، فالواقع يكشف عن ازدواجية في بعض المناطق، وانقسام في المواقف، بل وتناقضات وتباينات وشعارات وخطابات مضادة، تؤخر الحسم السياسي والعسكري. نجاح المجلس في تحويل هذا "التوافق" إلى وحدة قيادة فعلية هو التحدي الأكبر.

الاحتجاجات المدنية... من الإلهام إلى التفعيل

اعتراف الرئيس بالاحتجاجات النسوية كمصدر إلهام، يؤشر إلى تحول نوعي في فهم القيادة لدور الحراك الشعبي. لكن المطلوب ألا يُكتفى بالإشادة، بل أن يُحتضن هذا الحراك ويُحمى، ليصبح مكونًا من مكونات التغيير الديمقراطي، لا مجرد حالة استثنائية.

الوعود الاقتصادية... أملٌ أم هدوء مقابل التسوية؟

أثار الرئيس تفاؤلًا بتبشيراته الاقتصادية خلال الأيام القادمة، لكن ما استوقفني بجدية ربط التحرك العسكري بتمادي الحوثي، عندما بشّر بجهوزية القوات المسلحة والأمن وكافة التشكيلات العسكرية لخوض معركة الخلاص،في حال استمرت المليشيات الحوثية الإرهابية برفض الاستجابة للإرادة الشعبية وقرارات الشرعية الدولية ومساعي حقن الدماء وإنهاء المعاناة...

الحوثي قام بالانقلاب ولم يستجب للإرادة الشعبية بحسب مخرجات الحوار الوطني، والحوثي يرفض وينتهك كل يوم قرارات مجلس الأمن الدولي، والحوثي لم يراعِ حقن الدماء بل لا يزال يستهدفهم ويسفك الدماء، واستغل المعاناة – وهو المتسبب فيها – ليحول القضية من سياسية إلى إنسانية، ازداد هو ثراءً، وثلثا السكان يعيشون في مجاعة.

هذه الإشارة التي وردت في الخطاب قد تُفهم على أنها تهيئة لتسوية سياسية قادمة. وهنا تتولد المخاوف: هل نحن على أعتاب صفقة تُبقي على المليشيا وتُهمّش التضحيات؟ وهل سنشهد جولة جديدة من "اللاحسم" باسم الواقعية؟!

خاتمة: من البيان إلى البناء

خطاب الرئيس غنيّ بالبشارات، مليءٌ بالإشارات الذكية والتوريات، لكنه بحاجة إلى ما هو أكثر من اللغة. نحتاج إلى عقل جمعي ينقل ما ورد في الخطاب إلى وقائع محسوسة، ونظام حكم يعيد الاعتبار للثقة، ومؤسسات تستجيب وتنفذ، لا ترفض أو تتفرج. خطاب مايو لهذا العام مختلف، لكن التغيير الحقيقي يبدأ حين تختلف الوقائع، لا فقط الكلمات.

فليكن الخطاب بداية مرحلة، لا ذروة أمنيات... وكل عام والوطن بخير.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

-->
الحجر الصحفي في زمن الحوثي