لطالما كان اليمن مسرحاً لصراعاتٍ سياسيةٍ وعسكريةٍ مزمنة ، ولكن في العقد الأخير ، ومع تصاعد نفوذ الجماعات المسلحة غير النظامية ، باتت التنمية في هذا البلد رهينة للسلاح وفي مهب الرياح ، وأسيرة لحسابات المليشيات.
وبينما تحتاج البلاد إلى بنية تحتية ، وخدمات عامة ، وفرص اقتصادية ، يجد اليمنيون أنفسهم محاطين بواقعٍ تفرضه سلطة المليشيات ، حيث تتقدم الأجندات العسكرية على المشاريع التنموية ، ويتوارى صوت التنمية خلف أزيز الرصاص.
المليشيات تعتبر سلطة موازية تُقوّض الدولة إذ تشكلت المليشيات المسلحة في اليمن على خلفيات متعددة ؛ طائفية ، مناطقية ، قبلية ، أو حتى اقتصادية.
وبدلاً من أن تكون أدوات مؤقتة لحفظ الأمن أو دعم استقرار سياسي ، تحوّلت إلى سلطات أمر واقع تمارس مهام الدولة ، دون امتلاك شرعية قانونية أو مساءلة وطنية.
ففي مناطق سيطرتها ، تفرض هذه الجماعات قوانينها الخاصة ، تجبي الضرائب ، تسيطر على الموانئ ، وتحتكر التجارة ، بل وتعيد تشكيل المناهج التعليمية والإعلام بما يخدم فكرها.
التنمية في مرمى النيران:
يبدو من الصعب الحديث عن "تنمية" في ظل الحروب ، لكن التحدي الأكبر في اليمن اليوم لا يكمن فقط في الصراع العسكري ، بل في التداخل بين المليشيات وملف التنمية ذاته.
المشاريع التنموية الدولية أو المحلية تتعرض للنهب أو التعطيل ، والمنظمات الإنسانية تُجبر على التعامل مع المليشيات لتأمين الوصول ، مما يجعل التنمية رهينة للابتزاز السياسي.
البنية التحتية ، كالكهرباء والمياه والطرق ، لا تُرمم إلا إذا خدمت مصالح القيادات المسلحة ، بينما يُهمّش المواطن البسيط، الذي يتوق إلى تعليمٍ جيد ، وخدمات صحية ، وفرص عمل.
الاقتصاد المليشياوي يعتبر موارد للتنمية التي تُموّل الحرب إّذ لا يخفى على الجميع أن المليشيات تعتمد على الاقتصاد غير الرسمي لتمويل أنشطتها ، من خلال السيطرة على الموارد الطبيعية ، وتحصيل الجبايات ، وفرض الإتاوات على القطاع الخاص.
هذا النمط الاقتصادي يعمّق الفساد ، ويخلق بيئة طاردة للاستثمار، ويعوق النمو الحقيقي في البلاد ؛ فبدلاً من أن تُضخ الأموال في البنية التحتية أو دعم الإنتاج المحلي ، تُوجّه لبناء ترسانة سلاح تلك المليشيات ، أو تعزيز شبكات الولاء.
وما أخطر من ذلك ، أن هذه الجماعات تسعى إلى "تحوير" التنمية لتكون واجهة ناعمة تبرر وجودها ؛ فتطلق مشاريع رمزية تُستخدم للدعاية أكثر من فائدتها الفعلية للناس.
هل من أمل؟!
رغم الصورة القاتمة ،إلا إنه لا يزال الأمل قائماً ، فهناك مبادرات شبابية ، ومنظمات مجتمع مدني تعمل بصمت في مجالات التعليم ، والصحة ، والتمكين الاقتصادي ، متجاوزة القيود السياسية.
ولن تنهض التنمية في اليمن إلا بإعادة بناء الدولة ، وتقليص نفوذ الجماعات المسلحة ، وإعادة الاعتبار للمؤسسات المدنية.
فالمعادلة واضحة: لا تنمية في ظل السلاح ، ولا سلام دون عدالة ، ولا مستقبل دون دولة تحمي الجميع لا تهيمن عليهم.
في الأخير ما لم يتم تفكيك بنية المليشيات ، وتجفيف منابع تمويلها ، وتمكين الدولة من إستعادة سلطتها ، فإن أي حديث عن التنمية في اليمن سيظل ناقصاً ومهدداً بالفناء النهائي.
إنها معركة وجودية ، ليست فقط بين الحرب والسلام ، بل بين من يريد أن يبني وطناً ، ومن يرى فيه مجرد فيد وغنيمة.
-->