قامت السلطات التاريخية في اليمن على مبدأ تغلُب طرف سياسي قبلي على آخر، حتى يأتي من ينهي الانقسامات المجتمعية بمكوناتها القبلية عادةً ويقوم على إثرها دولة، تفرض سيادتها إلى حين، حتى تحل محلها أخرى ولم تستطع دولة توحيد اليمن وفرض السيادة عليها عبر التاريخ إلا في مراحل قلة ومتفاوته..
ظاهرة التربص بالآخر التي عانى منها الشعب اليمني لا زالت حاضرة وبقوة، تقوم حرب تستقوي فيها قبيلة على أخريات تسيطر إلى ما شاء الله، القبائل الأخرى تتربص بها للانقضاض عليها وإسقاطها بغرض حلول أخرى محلها.
وهكذا تأرجحت السلطات السياسية في موجات بحر الصراعات البينية بمكوناتها الرئيسة القبلية أو الجهوية، فكانت آخر الدول التي سادت وحكمت جزء كبير من اليمن لقرون وبنت السدود وسنت القوانين وشكَّلت الجيوش هي الدولة الحميرية تأسَّست جنوبي اليمن في القرن الثاني الميلادي تقريبًا على أيدي قبائل سبئية الأصل، انتشرت في مناطق ريمة وتعز وإب وذمار وأجزاء من صنعاء ومأرب، واتّخذت من «ظفار عاصمة لها" والتي نسميها اليوم مديرية يريم مدينة إب..
تشكَّلت دول أخرى في مناطق عدة في اليمن عقب دخول الإسلام، الدولة الزيادية، ودولة بني نجاح في مخلاف التهايم دول الرسوليين والأيوبيين، الدولة الصليحية وبني زريع في مخلاف الجند والدولة اليعفرية وأخر في جنوب الوطن يتمدد سلطان الدولة بحسب قوة نفوذها وتنكمش بقدر ضعفها..
أما شمال الشمال فقد استقدمت بعض القبائل المتورد يحيى الرسي، بداية للفصل في قضايا كانت عالقةً بينهم عجزوا عن حلها دون وجود طرف ثالث، وتلك دلالة معضلة عدم توافق اليمنيين وعدم قبولهم ببعضهم ما أدى إلى دخول مشروع آخر دخيل سعى لحكمهم وهو المشروع السلالي الذي عارضته وحاربته بعضها، وناصرته وآوته أُخر..
كان الرجل داهية ذا علم وشعر وأدب وحيلة استطاع أن يُخضع القبائل اليمنية عن طريق ضربها ببعضها تارة والاستقواء بالطبريين الفرس تارةً أخرى دارت رحاها في مناطق شمال الشمال كانت القبائل قطب الرحى الدامي، ومن أعقبه من الأئمة حتى سقوط الخلافة العثمانية..
ما أود الوصول إليه أنه من أهم أسباب عدم استقرار اليمن وقيام الدولة في تاريخها المعاصر، على غرار دول ما قبل ظهور السلام، هي تجذر ثقافة الطغيان وعدم القبول بالآخر..
والكل يريد أن يتصدر ويحكم على مستوى القبيلة، والإقليم وحتى المربعات الجغرافية الصغيرة، وكان من أهم عوامل ذلك الصراع ضيق الحياة الإقتصادية في بلاد الهضاب، وطغيان العصبيات القبيلة والمناطقية والسلالية في ظل غياب دولة عادلة وانعدام التنشئة الوطنية والتوعية بأهمية قيام الدولة.
بما فيها التمردات التي كانت تحصل على الإمامة، تثور القبيلة لتطيح بحاكم سلالي وتبحث عن آخر من نفس السلالة لاعتقاد زرعته الإمامة في عقولهم، هو أنهم قُصَّر غير جديرين بالحكم ولا يصلحوا لقيادة الدول.
دامت الظاهرة، ظاهرة الصراع ومحاولة القبيلة السطو على الدولة حتى بعد قيام ثورة 26 من سبتمبر، اصطدمت القوى الثورية من التيارات القومية واليسارية حملة نواة بناء الدولة بتلك الصخرة تصارعت فيما بينها، طغت المكونات القبلية والتقليدية على المشهد بعد إزاحة الرؤساء الوطنيين السلال، الإرياني واغتيال الحمدي بدعم غير بريء من بعض الدول لسببين..
الأول: التدخل المباشر للملكة في الشأن اليمني لإفراغ الجمهورية من محتواها بعد أن فشلت في هزيمتها عسكريًا عن طريق دعم القوى التقليدية قبلية دينية..
الثاني: عدم وجود الغطاء السياسي الداخلي والداعم الدولي الحقيقي للقوى اليسارية والتقدمية وقلة التجربة وضعف الإيمان السياسي بقيم الدولة والجمهورية داخل الجهاز الإداري والأمني والعسكري بعد إقصاء قادته وتصفية رواده..
أما في الجنوب فقد دار الصراع داخل مجتمع يتمتع بواحدية المذهب وصفاء العرق اليمني إلا أنه كان ضحية صراع أيديولوجيا كانت هي في قطبيها متناحرة توزعوا بين محبي الماوية الصينية وعشاق اللينينية الروسية، عاشت دورات صراع دامية نتيجةً لتصدر قيادات شابة مدنية وعسكرية فقيرة الخبرة السياسية وأهمية التوحُد في بناء الدولة..
أُسدل الستار على وهج الثورة والجمهورية كنظام حضاري بنيوي حديث وأقصيّ رواده طمرت سيول العدامة مزارع الثوار الأوائل في كلا الشطرين نبتت فيه أشجار التطاحن والصراع الذي لم يسعَ يومًا إلى تحقيق هدفٍ سامٍ تطلع إليه الشعب الثائر وسعى إلى تحقيقه صُنَّاع الثورة..
توسعت جغرافيا الصراع وثقافة استحواذ القبيلة وإقصاء ما دونها من مكونات، بعد انقسام الجمهورية جنوبًا تتربص الضالع وردفان بأبين وشبوة والعكس، شمالاً تتربص خولان بسنحان حتى قال قائلها
سلام من خولان طايل ... من بيت لحمه لا قحاز
خولان باتصبر عليكم... لوما علي يطرح جهازه
وتتربص قبيلة بكيل بحاشد ، قال قائلم ضباطنا في البيوت يعزفون عن العمل بدعوى إقصائهم عمدًا من المناصب القيادية من قبل حاشد المتوسعة في جهاز الدولة..
كانت حاشد هي الحاكمة وتعطى حصة من قيادات الدولة المدنية والعسكرية والاقتصادية إلا أن الصراع البيني بدأ في القبيلة ذاتها عندما انحسرت دائرة حاشد إلى سنحان حيث تركزت التعيينات العسكرية منها أكثر، ثم انحصرت سنحان في عائلة "الأحمر" ومن ثم انحصرت في عائلة صالح وأولاده بعد أن كَبُرَ الأبناء حسب توصيف الشيخ سنان أبو لحوم في أحد مقابلاته..
الانقسامات، الصراعات، والحروب في اليمن، كانت ولا زالت مدعاة للتفكك والضعف وثغرة واسعة من خلالها يتسلل الأعداء وبابًا للتدخلات وتفريخ السلالات من جديد..
سبب السقوط بيد الحوثي
كان استمرار الصراع القبلي البيني التاريخي بصورٍ حزبية ومكونات سياسية حديثة في ظاهرها، ثورة الشباب 2011م، كانت السبب في بداية النهاية لنظام صالح، خروج الجماهير الفتية بعفوية مطلقة تطالب بتغير الوضع غير مدركة لحقيقة ما يدور من صراع يغتلي خفيةً بين أجنحة الحكم والقوى القبيلة، ركبت بعض القيادات الموجة الشعبية بأهداف مستبطنة كانت تصطرع خُفيةً في عمق السلطة السنحانية، الصراع الذي حَرَف مسار ثورتهم واتجه إلى المصالحة السياسية قبل وبعد مخرجات مؤتمر الحوار الوطني والذي كان ذروة حصاده نظام الأقليم والدولة الفيدرالية..الذي تحفظ عليه ثنائي النكبة صالح والحوثي إيمانًا منهم بعدم خروج السلطة الزيدية من جغرافيتها ليتولاها آخر من خارج المركز..
تولاها صاحب دثينة الذي كان نائباً للرئيس ليتحول منصب النائب على محسن من سنحان لتبرز مقولة "يا ويل سنحان من دثينة" القنبلة التي فجَّرت الحياة السياسية وأبرزت الانتهازية القبلية وأعادت صورة صراع ما قبل الدلة الحديثة بين أبناء العمومة وأفخاذ قحطان عبر الزمان..
الخديعة أن اعتلاج القوى الإمامية الجديدة وتخصيبها في ظل ذلك الصراع القبلي البيني كان حاضرًا وبقوة ولم تخطر ببال أحد، وبمساعدة من أطراف السلطة، لعدم قبولها بالآخر المرض التاريخي الذي كان يودي بدولهم بتدخل طرف ثالث مستعمر خارجي دول أو مستعمر داخلي طموح "الإمامة السلالية" عبر تاريخ صراعهم الحديث..
فكان استقدام الحوثي من صعدة بمساعدة مشروخي الوجدان الوطني الجمهوري على غرار استقدام يحيى الرسي من جبال الرس من قبل بعض القبائل عام 284ه ، طامةً كبرى أعادت مآسي التاريخ إلى الذاكرة وأشعلت دورات الحروب السلالية اليمنية الإقصائية المنسية التي لم تترك بيتًا في اليمن إلى وزرعت فيه جراح، وجلبت التدخل الخارجي والشتات الداخلي، الحرب التي أسقطت الأقنعة وكشفت الوجوه الحقيقية للبشر والجغرافيا بما فيها الأحزاب والمكونات السياسية فأخذت كلا منها مكانها الذي تستحق تاريخًا وسياسة، شجاعةً جمهوريةً ونضال..
بيت القصيد وذروة ذلك الصراع القبلي والانقسام الجهوي التاريخي سالف الذكر برغم الغصة والأمل أسفًا أقولها، يتمثل في منظومة المجلس الرئاسي وأعضاؤه، انقسامات عسكرية، جهوية، سياسية يتبعها ولاءات مختلفة قريبة وبعيدة.. ومن عجيب المفارقات أن كل عضو لديه قوة وأطراف إلا الرأس في حالة خصومة حتى مع مسقط رأسة عديم القوة مبتور الأطراف..
وبرغم الدرس القاسي والتجربة المريرة التي مرت وتمر بها اليمن إلا أن علة الظاهرة التاريخية للصراع القبلي الجهوي البرجماتي لا زالت حاضرة وبقوة في مكون الرئاسي، وكأن العقل اليمني عصيٌ على التطور والفهم والتعلم من الدروس الحية، والوعي بأهمية قيم الدولة ورسوخ نُظُمها وقوة وحدتها، أطرافا نُخبًاً وأرضًا، وأنها أي اليمن الموحد القوي هي المانح الحقيقي للقيمة الدولية والإقليمية للدولةِ والفرد، يمن سينعم به الجميع كونه وطن حيوي غني واسع يتسع للجميع، بثرواته وخيراته البرية البحرية، والاستراتيجية سيزيد كفايةً لإشباع الجزيرة برمتها وليس الشعب اليمني فحسب..
-->