المنهج الإسلامي الوسطي من حيث المبدأ يأمر أفراد المجتمع بشكل صريح وواضح إلى عدم الانزلاق في دائرة الخلافات والنزاعات والخصومات ، وذلك لما لها من نتائج سلبية وأضرار فادحة تؤدي في كثير من الأحيان إلى تفكيك وتمزيق وتشويه النسيج الاجتماعي ، كما أنها قد تتطور وتدفع بأفراد المجتمع إلى العنف والفتنة والاقتتال والتناحر الداخلي ، وكل ذلك ينعكس بشكل سلبي على حياة أفراد المجتمع في مختلف مجالات الحياة ، قال تعالى (( ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم )) ، فالنزاعات والخلافات والخصومات والحروب الداخلية تقود المجتمعات نحو مربعات الفشل والتخاذل والانهزام الذاتي والتراجع والتخلف الحضاري ، والانكشاف الدفاعي أمام الأعداء الخارجيين ، لذلك جاء القرآن الكريم بالعديد من التشريعات والاحكام والمعالجات الحضارية التي يمكن من خلالها الضبط والتحكم والسيطرة على النزاعات والخلافات بكل أنواعها التي قد تنشأ بين الأفراد والجماعات داخل المجتمع الاسلامي ، فليس هناك ما هو أسوأ على المجتمع من تفشي ظاهره النزاعات والخلافات بين أفراده وجماعاته ، فهي تفقده كل عناصر قوته الداخلية والذاتية ، ويصبح من السهل على القوى الخارجية والمعادية اختراقه والعبث بمقدراته وامكانياته ، وإثارة الفوضى والعنف عن طريق دعم الأطراف المتصارعة ضد بعضها ..!!
وأول تلك المعالجات التي جاء بها القرآن الكريم للمحافظة على قوة المجتمع وتماسكه ، الدعوة إلى إصلاح ذات البين ، وذلك عن طريق حل النزاعات والخلافات من خلال المبادرات المجتمعية الهادفة إلى تسوية القضايا محل الخلاف والنزاع بالتراضي والتصالح والتسامي فوق الجراح وكبت الأهواء والنزوات والانفعالات العدوانية ، وتقديم التنازلات من جميع الأطراف لما فيه الصالح العام ، قال تعالى (( فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين )) ، وقد جعل الله تعالى الخير الكثير في كل الأعمال والمبادرات التي تقود إلي التصالح والتسامح ، قال تعالى (( الصلح خير )) ، وفي حال فشلت المبادرات المجتمعية في حل القضايا محل النزاع ، يأتي المنهج الاسلامي بالمعالجة الثانية الكفيلة بعدم انزلاق الأطراف المتصارعة نحو السلبية ، والتي تدعوا جميع الأطراف الضالعة في النزاعات إلى إدارة النزاعات والخلافات القائمة بينهم بأسلوب مدني وحضاري ، وذلك عن طريق تحكيم شرع الله الذي يكفل لجميع أطراف النزاعات الحصول على حقوقهم بشكل عادل دون تحيز لأحد ، قال تعالى (( فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر )) ، وجعل القيام بذلك دليل على الإيمان في القلوب ، وهذه المعالجة تكفل لجميع الأطراف الحصول على حقوقهم دون اللجوء لإدارة خلافاتهم ونزاعاتهم بالقوة والعنف كوسيلة همجية وعدوانية وغير حضارية ..!!
وهذه الحلول والمعالجات التي يقدمها المنهج الاسلامي لإصلاح ذات البين ، تدل دلالة قاطعة على مدى اهتمامه وعنايته بسلامة النسيج الاجتماعي ، وحرصه الشديد على عدم تعرض شبكة العلاقات الاجتماعية للضرر والتشويه ، فهذه الشبكة قد تصاب بالانسداد أو التمزق هنا وهناك ، وينتج عن ذلك ظهور الأنواع المختلفة من صور التشاحن والتباغض والكراهية والعداء والقطيعة والتنافر والتصارع بين أفراد المجتمع ، وهنا تأتي عملية اصلاح ذات البين لإصلاح وترميم وصيانة شبكة العلاقات الاجتماعية ، وإزالة الأضرار التي قد تلحق بها ، وهذه العملية يجب أن تمارس باستمرار كواجب شرعي وأخلاقي واجتماعي وانساني وحضاري ، وقد وعد الله تعالى القائمين على مبادرات الإصلاح الاجتماعي بالجزاء الكبير والثواب العظيم ، واعتبر ذلك العمل عبادة من أهم العبادات التي تقرب الإنسان إليه ، قال تعالى (( لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو اصلاح بين الناس )) ، والعكس صحيح فالعذاب الشديد والخسارة الكبيرة هي جزاء من يسعى إلى إثارة الفتن والنزاعات والخلافات بين أفراد المجتمع الاسلامي ، فالاصلاح الاجتماعي فضيلة عظيمة لا يقوم بها إلا دعاة الخير ودعاة السلام والتسامح والتعايش السلمي ..!!
-->